حقوق المرأة بين الشريعة والقانون والأخلاق الاجتماعية

 

يدرك المتتبع لقضايا المرأة في المجتمع العربي مقدار التقدم الملحوظ الذي تم إنجازه في مساهماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك خلال فترة لا تزيد على العقدين من الزمن، وبرغم ذلك مازال الإحساس بأن المطلوب في هذا المجال يزيد كثيراً عما تم إنجازه، فطموحات المرأة والداعين إلى التقدم الاجتماعي مازالت أكبر مما يوفره الواقع من إمكانيات النهوض.. وفي الوقت الذي يأخذ فيه الكثيرون بتفسير الواقع المتردي للمرأة (موازنة مع واقع الرجل) بأحكام الشريعة الإسلامية والعادات والتقاليد والقيم، وبخاصة ما يتصل منها بقضايا الطلاق وتعدد الزوجات، ومرجعية رب الأسرة في القرارات التي تخص حركة المرأة وعملها وسفرها وغير ذلك.. يميل الكثير من المفكرين أيضاً إلى القول بأن القضايا الاجتماعية وما آلت إليه أحوال المرأة لا يعود بالضرورة إلى أحكام الشريعة إنما إلى الفهم الخاطئ لهذه الأحكام والعمل على تطبيقها على نحو يخالف أحكام الشريعة نفسها، ويضاف إلى ذلك تنتشر بقوة أيضاً اتجاهات حديثة ومعاصرة تؤكد على ضرورة انقياد المرأة للرجل في حياتها ومأكلها وملبسها وأغلب الاعتبارات التي تخصها، حفاظاً على وحدة الأسرة وتماسك الأبناء. وعلى الرغم من التباين الملحوظ في المواقف المتعدد نحو المرأة، فإن المواقع التي باتت المرأة تشغلها، وأصبحت حقوقاً تمارسها تتسع باستمرار، وتزيد عاماً بعد آخر، وبذلك فإن المرأة تشق طريقها بقوة خلال الفترة الراهنة، وتقف إلى جانبها مجموعات كبيرة من المثقفين والباحثين، والسياسيين وأصحاب القرار، مع أن ذلك لا ينفي انتشار المعوقات الكبيرة التي مازالت تحول دون تحقيق المرأة لمساواتها مع الرجل. وقد تشكلت نتيجة ذلك الجمعيات والمنتديات والروابط النسائية التي تعمل تعزيز الوعي الاجتماعي بحقوق المرأة وتطالب بحقوقها ومساواتها مع الرجل، مساواة كاملة غير منقوصة، في الوقت الذي ما زالت تنتشر فيه أيضاً الاتجاهات المحافظة المتشددة في موقفها نحو المرأة، وتدعو إلى ضرورة المحافظة على النظام الاجتماعي بغية المحافظة على الأبناء، وعلى نظام الأسرة وغير ذلك.. وتتفاوت المواقف بين هذين الاتجاهين، فيقترب بعضها من هذا، ويقترب بعضها الآخر من ذاك. غير أن ما يلاحظ في الأفكار المتداولة بين معظم التيارات أنها تخلط بين مفهومين أساسيين يرتبطان بالمساواة، هما المساواة في القيمة الإنسانية بين الذكور والإناث، والمساواة في القيمة الاجتماعية، وبين المفهومين فارق كبير لا بد من توضيحه، ذلك أن المساواة في القيمة الإنسانية أمر تقره الشرائع السماوية، ليس بين الذكور والإناث فحسب بل بين الكبار والصغار، وبين الذكور والإناث، وبين الرجال أنفسهم، وبين الإناث أنفسهم.. فيتساوى الطفل الرضيع، بل الجنين الذي مازال في بطن أمه مع الشيخ العجوز الذي جاوز التسعين من عمره، وكذلك يتساوى في هذه القيمة رئيس أكبر دولة في العالم، وأضعف عامل في أبعد منجم.. فالمساواة في القيمة الإنسانية أمر يقره الشرع الإسلامي، وتقره الديانات السماوية، ويقره التراث الإنساني منذ آلاف السنوات، ولا يستطيع أحد تجاهله أو نكرانه، ودليل ذلك أن العقائد الدينية السماوية تحافظ على حياة الجنين وتدعو إلى رعايته وتحرم إسقاطه، في الوقت الذي يدعو فيه أنصار الحضارة المزيفة والتقدم إلى الإجهاض، وإسقاط المخلوق التي يتمتع بكامل حقوقه الإنسانية. غير أن الأمر يختلف بالنسبة إلى المساواة الاجتماعية، ذلك أن هذه ليست موجودة في أي واقع اجتماعي، وهي وهم يتخيله عدد كبيرة من دعاة الحرية والتقدم، وليست أكثر من سراب يسعون إلى تحقيقه، والمشكلة أنهم يعيدون فشلهم إلى اعتبارات تخرج عنهم، ودليل ذلك أن القيمة الاجتماعية للفرد إنما تأتي من الدور الذي يؤديه الفرد في حياة الجماعة وفي طبيعة الكفاءات التي يتمتع بها، والسمات التي يتصف بها، وعلى هذا فإن الذكور أنفسهم ليسوا متساويين في القيمة الاجتماعية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإناث، ولا يمكن على الإطلاق تحقيق المساواة في القيمة الاجتماعية بين الآباء والأبناء، ولا بين الأمهات وبناتهم، ولا بين العامل ورب العمل، ولا بين الرئيس والمرؤوس، ولا بين المعلم والتلميذ، فتباين المواقع وتفاضل المسؤوليات حقيقة اجتماعية يستحيل تجاهلها في حياة الجماعة، ولهذا لا يمكن تحقيق ما يسمى بالمساواة في القيمة الاجتماعية، وكل محاولة تنطوي على تحقيق المساواة الاجتماعية بين الشرائح المتباينة في أدوارها تحمل في مضمونها عوامل تحطيم النظم التي ترتب العلاقات بين هذه الشرائح، وتحطم المعايير التي تنتظم من خلالها العلاقات بينها. والمشكلة التي تبدو للعيان أن عدداً كبيراً من المفكرين من الاتجاهات المختلفة يخلطون بين المفهومين، ويسعون جاهدين لتحقيق ما يسمى بالمساواة على أساس اجتماعي، أو أنهم يتجاهلون حتى المساواة في القيمة الإنسانية، فإذا كان الإسلام قد نظم العلاقة بين الزوجين على أساس المواقع الاجتماعية التي يشغلها كل من رب الأسرة وربة الأسرة ضمن الأسرة، وهي مبنية على التفاضل، غير أن ذلك لا ينفي أبداً المساواة في القيمة الإنسانية ليجعل المرأة تابعاً بكل ما تعنيه كلمة التبعية، ولا يجوز استخدام التفاضل في الحقوق والواجبات التي تقرها الشريعة لتحطيم مبدأ المساواة في القيمة الإنسانية، وهذا ما يقدم عليه المتشددون في قضية المرأة، كما أنه لا يجوز استخدام الدعوة إلى تأكيد المساواة في القيمة الإنسانية بين الذكور والإناث لتقويض دعائم النظام الاجتماعي وتحطيم الأدوار المنوطة بكل منهما بحسب خصائص كل منهما الطبيعية والعضوية. لقد نجمت عن الخلط بين المفهومين مشكلات كثيرة، فلا دعاة التشديد حققوا الغاية من الشريعة التي أعطتهم بعض الحقوق في الحياة الاجتماعية، لأنهم أغفلوا البعد الإنساني، وباتت المرأة رهينة قيود صنعها الجهل بالأحكام، ولا دعاة المساواة استطاعوا بلوغ طموحاتهم، إذ تحولت المرأة بفضل المساواة المزعومة إلى سلعة تباع وتشرى في سوق النخاسة بأرخص الأثمان، لأنها أصبحت وسيلة مربحة في التجارة والإعلان، والتاجر الأقوى يشتري المرأة التي يريد، والمردود الاقتصادي المتوقع منها يفوق المردود الذي يتوقعه من الصفقات التجارية الكبيرة، وحتى من المردود المتوقع من تحسين آلاته وأدوات إنتاجه. وفي ضوء هذا التصور فإن المشكلة ليست في أن تنال المرأة حقوقها بنص القوانين، أم لا تنالها، فالمشكلة أخلاقية أكثر من كونها قانونية، والقانون لا يستطيع ضمان أية حقوق بمعزل عن الأخلاق، وإذا كان المطلوب حماية المرأة من العنف، وإعطائها حقوقها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فالطريق الأسلم والأفضل إلى ذلك هو تعزيز الأخلاق، والعمل على مراقبة كل ما يمس الأخلاق العامة لأن فيها ضمان المجتمع، ففي غياب الأخلاق، مع سياسية التشدد نحو المرأة تتحول المرأة إلى كائن تابع لا يتمتع حتى بحقوقه الإنسانية التي نصت عليها الشرائع، فتتعرض للعنف والاضطهاد والضرب والشتم وخلافة.. وفي غياب الأخلاق مع سياسة التحرر والانفتاح تتحول المرأة إلى سلعة تباع بأرخص الأسعار في سوق الإعلان، والدعارة، وغيرها.. ولا يستطيع القانون بما أوتي من قوة السلطة أن يرفع عن المرأة الظلم في الحالتين معاً إلا بالأخلاق الإنسانية بمعناها العام. وفي ذلك فقط يمكن للمرأة أن تصبح شريكة للرجل في بناء أسرتها، وفي بناء مجتمعها، وفي بناء الحضارة الإنسانية عامة، سواء جاء ذلك في سياق اتجاهات المحافظة، أو في سياق اتجاهات التحرر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق