تعدد الزوجات بين الشريعة والأخلاق والعرف الاجتماعي

 

    تأخذ ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع العربي شرعيتها من التشريع الإسلامي الذي ينص على إمكانيتها بالنسبة إلى الرجل الواحد عندما تتوفر الشروط اللازمة لها، مع أن المجتمعات الإنسانية تعرف هذه الظاهرة منذ زمن طويل، كما أنها تمارس بأشكال مختلفة في المجتمعات الحديثة التي تحرمها قانوناً وتسمح بها عرفاً. وذلك بالنظر لما لها من وظيفة حيوية بالنسبة إلى الأسرة والمجتمع في الآن ذاته، غير أن العمل بها والأخذ بتطبيقها دون النظر إلى الشروط التي توجبها، والتي تعد جزءاً أساسياً من نظامها، يجعل منها سبباً لمشكلات اجتماعية عديدة تمس أمن الأسرة وتسهم في وجود الظروف غير المناسبة لتنشئة الأطفال تنشئة سليمة، وقد تصبح مصدراً لاضطراب الأسرة وقلق أبنائها بدلاً من كونها نظاماً اجتماعياً يراد منه معالجة بعض المشكلات المستعصية في حياة الأسرة.
     وتعود هذه الظاهرة إلى أسباب عديدة تختلف من حالة إلى أخرى، فقد يجد بعضهم أن الأسباب الحقيقية التي تجعل هذه الظاهر واسعة الانتشار تعود إلى الطرق التقليدية في الزواج، وخاصة تلك المرتبطة منها بعدم نضوج معرفة الزوجين ببعضهما بعضاً، حيث يقدمان على الزواج دون أن تمر الفترة المناسبة التي يستطيع كل منهما من خلالها فهم الآخر تماماً، مما يؤدي إلى زواجهما بشكل مبكر، وسرعان ما تبرز مظاهر عدم التوافق بينهما لاعتبار ثقافي أو اجتماعي أو معرفي، فيأخذ الزوج بالبحث عن زوجة أخرى ربما يجد فيها الصفات التي كان يتوقع وجودها في زوجته الأولى. فيشكل عدم معرفة كل منهما بالآخر معرفة معمقة واحداً من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انتشار ظاهر تعدد الزوجات.
ويجد بعضهم الآخر في اختلاف مستوى التعليم سبباً آخر، فالرجل الذي أقدم على الزواج من فتاة تحمل الشهادة الابتدائية أو الإعدادية، عندما كان نظيراً لزوجته أو يزيد عليها قليلاً، ثم أخذ بمتابعة تعليمه بشكل أو بآخر حتى استطاع الحصول على شهادات تعليمية جامعية أو عليا، قد يشعر بفارق ثقافي كبيراً يفصل بينه وبين زوجته، يؤدي إلى غياب الحوار المشترك بينهما، واختلاف القضايا والمسائل التي يهتم بها كل منهما، ومن الطبيعي برأي هؤلاء أن يتجه رب الأسرة إلى البحث عن امرأة قريبة منه في تفكيرها ومشاغلها واهتماماتها، مما يدفعه إلى الزواج مرة أخرى.
    وقد يكون التغير الذي يطرأ على بعض الأفراد في عملهم ومستوياتهم الوظيفية واحداً من العوامل التي يفسر بعضهم من خلالها مسألة تعدد الزوجات، فالموظف الذي أقدم على الزواج من قريبة له قبل أن يترقى في سلم وظيفته ثم أخذ بالترقي شيئاً فشيئاً، وأخذ يتفاعل مع المحيط الاجتماعي، ويتعرف أشخاصاً، ونساءً متعددة الأشكال قد يمتلكه إحساس بأنه أصبح في ظروف تستدعي زواجه مرة أخرى من امرأة تكافئ الموقع الذي يشغله في ترتيبه الوظيفي الجديد، فيندفع إلى ذلك وهو واثق بأنه على حق، وأن الشريعة تتيح له ذلك.
    ويلاحظ أن عدداُ كبيراً من المثقفين والدارسين يجد في تعدد الزوجات شكلاً من أشكال التخلف الحضاري والثقافي، وأن فيه إساءة كبيرة بحقوق المرأة فليس من العدل أن يشرع المرء لنفسه الزواج من نساء عدّة في الوقت الذي لا يتيح لزوجته إمكانية التواصل مع المحيط الاجتماعي، ويفرض على المرأة مجموعة كبيرة من القيود الاجتماعية والثقافية التي تحول دون تفاعل المرأة الآخر، ولهذا السبب فإن في تعدد الزوجات شكل من أشكال الظلم الاجتماعي الذي يمارسه المجتمع بحق المرأة.
    غير أن المسألة ليست بهذه البساطة، ذلك أن الزواج والارتباط الأسري ليس علاقة جنسية وحسب، بل هو نظام اجتماعي فيه تبادل المشاعر والأحاسيس والمسؤولية، واختلاف المواقع، والأسرة بهذا التصور هي أكبر من أن تكون علاقة جنسية بين طرفين وحسب، وانتشار الظاهرة على هذا التصور لا يسيء للمرأة إلا إذا أخذنا بمعايير الثقافات الغربية الوافدة إلينا، ومن الرغبة بتقليد الآخر أكثر من كونه مبنياً على دراسة نفسية واجتماعية متكاملة. ولا شك أن العلاقات الجنسية غير المنظمة التي يقيمها الرجل مع عشرات النساء (خارج نظام الأسرة) تنطوي على إساءة حقيقية للمرأة تفوق أضعاف المرات الإساءة التي يمكن أن تلحق بها نتيجة الزواج المشروع من امرأة أخرى، بالإضافة إلى العلاقات الجنسية غير المشروعة التي يقدم عليها الرجل تجعل نظرته إلى المرأة عموماً، بما ذلك زوجته، نظرة جنسية وليس أكثر، الأمر الذي يهدد القيم الناظمة للروابط الأسرية، ويجعل من نظام الأسرة نظاماً هشاً يتحطم عند أول تيار يجرفه.
    ويلاحظ في المجتمعات الحديثة، بما في ذلك دول العالم الثالث، ازدياد واضح في عمليات الهجرة والانتقال السكاني، ويعد الذكور أكثر حركية في هذا المجال، وأكثر ميلاً للهجرة والبحث عن العمل والاستقرار في مراكز المدن والمناطق الحضرية بعيداً عن القرى الأصلية التي لا تستطيع استيعاب قوة العمل المتنامية في الريف، ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك ارتفاع في نسبة الإناث بالموازنة مع نسبة الذكور، ومن الطبيعي أيضاً أن تزداد نسبة العنوسة في المجتمعات تقل فيها حركة المرأة عن حركة الرجل، ذلك أن ما يتاح للرجل من إمكانيات الزواج أكبر مما يتاح للفتاة، الأمر الذي يعزز غياب التوازن، ويجعل نسبة الجنس مرتفعة في المناطق الريفية، أو في المجتمعات المحلية التي تنخفض فيها فرص العمل، ويندفع فيها الشباب نحو الهجرة.
     ويضاف إلى ذلك أن الذكور في معظم المجتمعات، بما في ذلك دول العالم الثالث أيضاً أكثر عرضة للوفاة بسبب الحروب التي تعاني منها مجتمعاتهم، مما يؤدي مرة أخرى إلى ارتفاع نسبة الإناث اللواتي يفقدن أزواجهن، ويترملن في سن مبكرة، فترتفع نسبة الجنس مرة أخرى، وتبدو ملامح عدم التوازن بين الذكور والإناث في المجتمع الواحد.
      وبالنظر إلى الزواج والعلاقة مع الآخر ليست مجرد علاقة جسدية، يراد منها تحقيق الشهوة، والمتعة بقدر ما هي نظام اجتماعي يراد منه تلبية حاجات الأفراد من النواحي النفسية والاجتماعية فإن وجود نسبة عالية من الإناث بدون زواج يؤدي إلى انتشار مشكلات عديدة تتصل باستقرارهن العاطفي والنفسي، ويجعل عدداً منهن يشعرن بفقدهن لمقومات أساسية في حياتهن، وكأن شروط الحياة بالنسبة لهن لم تكتمل بعد.
      إن العلاقة مع الآخر تشكل جوهر الحياة بالنسبة إلى الإنسان، ويعد الزواج شكلاً أساسياً من أشكال هذه العلاقة، ويسهم في تلبية حاجات عاطفية ونفسية واجتماعية لا حصر لها في حياة الإنسان، ولهذا فتعدد الزوجات في التشريع الإسلامي لم يأت عبثاً، بل ينطوي على أبعاد اجتماعية وثقافية يصعب إدراكها على مستوى تحليل الحالات الفردية، أو على مستوى الأجزاء، ذلك أن الرؤية الكلية للتركيب الاجتماعي لم تكن متاحة إلى من خلال تتبع الحالات الكثيرة التي يصعب حصرها، مما يستوجب اعتماد طرق ومناهج خاصة لبلوغ الرؤية الشمولية.
     وبرغم ذلك فإن تعدد الزوجات بوصفه نظاماً اجتماعياً يسهم في حل الكثير من المشكلات الاجتماعية قد يصبح واحداً من أبرز المشكلات التي تهدد بنية الأسرة والعلاقات الاجتماعية داخلها إذا ما تم استخدامه في غير موقعه، وقد يصبح مصدراً لخطر اجتماعي يهدد أمن المجتمع إذا تمت ممارسته في غير الأسباب الداعية إليه.
     إن الآثار المترتبة على ظاهرة تعدد الزوجات لا تربط بقاعدة اجتماعية ثابتة يمكن القول معها بأن الزواج مرة أخرى يترك آثاراً إيجابية أو سلبية على سير الحياة الاجتماعية، إنما الأمر مرتبط بطبيعة الناس الفاعلين أنفسهم، وبمستوى وعيهم الاجتماعي، ومستوى نضوجهم الأخلاقي والنفسي، فإذا أجاز القانون إمكانية ممارسة الفعل على نحو من الأنحاء لاعتبار اجتماعي أو اقتصادي فإن الممارسات المنحرفة التي يقدم عليها بعض الأفراد الذين لم يصلوا مرحلة النضوج الأخلاقي التي تجعل من الفعل يأخذ موقعه الصحيح لا تتيح إمكانية تعديل القانون أو تغييره، ذلك أن المشكلة تظهر على الدوام في كل قانون جديد يمكن أن يحل مكان القانون القديم، الأمر الذي يعني أن المشكلة الحقيقية ليست في القانون ذاته، إنما هي في الإنسان الذي يطالب بحقوقه، ويمارس ما ينبغي عليه ممارسته، فإذا صلح الإنسان جاءت القوانين والأنظمة لتسهم في معالجة مشكلاته على نحو كبير، وإذا فسد الإنسان استطاع بكل بساطه تجاوز هذه القوانين والالتفاف حولها، واستطاع أن يمارس من الأفعال التي تعاقب عليها تلك القوانين نفسها، وينطبق الأمر نفسه على مبدأ تعدد الزوجات، فإذا كان غرض الشريعة من هذا التعدد إيجاد الحلول الممكنة لمشكلات مستعصية، وأراد الإنسان منه مصدراً لمشكلات اجتماعية واقتصادية ونفسية يعيشها فالأمر مرتبط به وليس بالشريعة.

     ودلالة ذلك أن بعض دعاة الثقافة الغربية يجدون في تعدد الزوجات ما يسيء إلى كرامة المرأة وحريتها ومساواتها مع الرجل، في الوقت الذي يقومون فيه كل يوم باستغلال مواطن الضعف في شخصية المرأة ويجعلون منها مصدراً للتجارة والمكاسب المادية والأنانية، ويسوِّغ كل منهم لنفسه أن يقيم العلاقات غير المشروعة من عدد كبير من الإناث، وكأن ذلك لا يسيء إلى كرامة المرأة ولا يهين شخصيتها، وهم بذلك يضربون بعرض الحائط كل القيم الإنسانية والأخلاقية، وحتى دعواتهم لحرية المرأة ومساواتها حتى تصبح المرأة سلعة يستطيعون من خلالها تحقيق الأرباح الباهظة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق