المجال الإدراكي للإنسان ومعرفة الله


    يشكل الشعور الإنساني مدخلاً أساسياً من مداخل المعرفة التي يتطلع الإنسان إليها، ويحكم من خلالها على الأشياء المحيطة به، ويأخذ بتقييمها تبعاً لمستويات شعوره بها، من حيث وجودها وتأثيرها، والأخطار المترتبة عليها، أو المنافع المتوقعة منها، في الوقت الذي تنتفي فيه إمكانية أن يتفاعل الإنسان مع الأشياء الخارجة عن حدود مشاعره وأحاسيسه، حتى لو كانت شديدة القرب منه أو كانت على تماس مباشر معه، فقد يتأثر الإنسان بالإشعاعات القريبة منه تأثراً كبيرا، وهو لا يستطيع تجنب الأخطار المترتبة عليها بسبب خروجها عن دائرة إحساسه المباشر، ولا تخضع لدائرة شعوره بالأشياء.
     وعلى الرغم من أن للشعور أنواع عديدة وأشكال متنوعة تساعد الإنسان في تحقيق عمليات التواصل مع الأشياء المحيطة به، ومعرفتها والحكم عليها، وتجنب الأخطار المترتبة عليها، أو جلب المنافع المتوقعة منها، غير أن هذه الأنواع والأشكال لا تشمل كل الأشياء المحيطة به، بدلالة أن هناك كم هائل من الكائنات الحية وغير الحية التي ترافق وجوده، وهو لا يشعر بها، و لا يستطيع تصورها، ولا أن يقيم أن شكل من أشكال التفاعل معها لقصور شعوره بها، وعدم قدرته على الإحساس بآثارها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في حياته.
     ويضاف إلى ذلك، يلاحظ أيضاً إن شعور مجموعة من الأفراد بالأشياء المحيطة بهم يختلف اختلافاً بيناً، ففي الوقت الذي يأتي فيه شعور أحدهم بما يحيط به من أشياء مادية أكبر بكثير من شعور غيره بها على الرغم من هذه الأشياء موجودة بالنسبة إليهم جميعاً، فالخائف والمضطرب لا يرى ما يراه المطمئن والمستقر  عند مرورهما في المكان نفسه، ومن يبحث عن أشياء تهمه في حياته ويسعى إلى امتلاكها قد لا يشعر بما يهم غيره حتى مع وجوده المادي الواضح بين يديه، فالشعور بالأشياء حتى الموجودة منها، والقريبة من الإنسان بدرجة عالية، لا يعد بالضرورة شعوراً تاماً، ولا هو بالضرورة شعور صحيح.
     ويلاحظ أن تطور القدرات العقلية والفكرية لدى الإنسان استطاع أن يكشف عن حقائق مادية في الطبيعة والوجود لم يكن الإنسان قادر على اكتشافها في ظل القدرات العقلية والفكرية في فترات سابقة، ففي مراحل تاريخية طويلة لم يكن الإنسان قادر على الشعور بالجاذبية الأرضية على الرغم من خضوعها لها في كل ظروف حياته، ولكنها كانت غائبة عنه تماما، ولم يكن في مقدروه التفكير بها، لا بسبب غيابها إنما بسبب ضعف قدراته على الرؤية والتحليل والفهم، ويقال الأمر ذاته فيما يكتشفه الإنسان كل يوم من قوانين طبيعية تحكم حركة ظواهر الكون وتحدد مساراتها، فأي شعور للإنسان كان يمكن له أن يكتشف الجاذبية الأرضية، أو جاذبية القمر، أو كروية الأرض، أو غيرها الكثير.
     وإذا كانت المشكلة في شعور الإنسان بالأشياء المادية المحيطة به واضحة تماماً، ولا يمكن الركون إلى هذا الشعور للحكم عليها، فالمشكلة الأكثر تعقيداً في وجود الأشياء غير المادية التي تتطلب وجود مستويات أعلى من القدرات العقلية عند الإنسان، فالعلاقة مثلاً بين ذوبان الثلوج في أعالي الجبال، وفيضان الأنهار  في السهول والوديان لم تكن ممكنة في العصور القديمة، حتى بلغ العقل الإنساني مرحلة أفضل من التطور العلمي، عندئذ أخذ الإنسان بفهم بنية القوانين غير المنظورة الناظمة للعلاقات بين مكونات الطبيعة والحياة، مما يدل مرة أخرى على شعور الإنسان بالأشياء المحيطة به، لا يعد مصدراً كافيا للحكم على طبيعة هذه الأشياء، فهو بالإضافة إلى أنه غير قادر على إدراك المادي منها، فإن الأشياء غير المادية تحتاج إلى قدرات عقلية أوسع تساعد الإنسان على الشعور بها، والتنبؤ بمساراتها.
      ونسبية الشعور ليست حقيقة يقررها العلم فحسب، ولا هي من منتجات فلسفات العلوم التي أخذت تنتشر بقوة في القرنين الأخيرين، إنما هي حقيقة مستقرة وتلازم الإنسان أينما كان، وأينما وجد، وقد وردت عبارة "لا يشعرون" في القرآن الكريم ست عشرة مرة، بينما وردت عبارة " لا تشعرون" ثلاث مرات فقط. وفي كل آية كريمة تكمن حكمة بالغة تبين كم أن ضعف الشعور لدى الإنسان يدفعه إلى أحكام غير صحيحة عن الأشياء، وقد يندفع إلى اتخاذ مواقف وقرارات تعود عليه بالضرر بسبب انشغال تفكيره عنها، وانصرافه إلى غيرها، مما يدل على أن غياب الشعور لا يعود إلى غياب الأشياء بقدر ما يعود إلى التوجه غير الصحيح.
      والمشكلة بأن الإنسان يملك شعوراً قويا بمصداقية الأشياء المحيطة به، مما يقربه من الإحساس باليقين في معارفه التي يملكها، بل يشعر باليقين المطلق كلما كانت معارفة ضئيلة وشعوره بالأشياء المحيطة به ضعيفاً، فاليقين الذي كان يملكه الإنسان البدائي القديم في إيمانه بعبادة الأوثان، أو النيران، أو آلهة البحار والأنهار وغيرها، لا يختلف عن اليقين التي يتصف به من يدعو الناس اليوم إلى الانتحار ظنا منه أنه يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، أو يدعوهم إلى الجنة، كما هو الحال بالنسبة إلى المتطرفين الدينيين، ولا يقل هذا اليقين أيضاً في حجمه وقوته عن اليقين الذي يشعر به أولئك الانتحاريون الذين يعتقدون أن في ذلك ما يقربهم من الله عز وجل، وفي الحقيقة ينطبق عليهم قوله تعالى في سورة الكهف}قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) {
     والأمر لا يختلف أيضاً عن أولئك الذي يعتقدون بصدق حواسهم ويجعلون منها معياراً لتقرير مسائل وجودية تجاوز كل مجالات إدراكهم، فوجود الأشياء في الطبيعة والكون إنما هو رهن بما يقرر المجال الإدراكي لوعيهم، وبما يقرره شعورهم بوجود هذه الأشياء أو عدم وجودها، علما بأن ملايين الأشياء الموجودة في الطبيعة منذ القديم، وقبل ظهور الإنسان على وجه البسيطة، ولم يكن الإنسان ليعرفها أو يشعر بها، وبرغم ذلك كان الإنسان وما زال يجهل الكثير منها، وحتى الأحكام العقلية بالنسبة إليه إنما تأتي في كل الحالات بحسب ما لديه من معلومات ومعارف اكتسبها بطريق أو بآخر خلال حياته، ولما كانت هذه المعلومات موصوفة بالتأكيد بعدم كمالها، فليس من المعقول أن تأتي أحكامه العقلية كاملة أيضاً، مما يجعل الأحكام التي يعتقد الإنسان بكمالها أحيانا نسبية في مضمونها وحقيقتها لكونها ستختلف حتما مع أية إضافات جديدة للمعلومات السابقة التي بنيت عليها.
      إن عملية المعرفة عند الإنسان مرتبطة على الدوام بثلاثة عوامل أساسية تختلف من آن إلى آخر، وتجعل معرفته لكل الأشياء المحيطة به نسبية حتماً، ولا تصل إلى مستوى اليقين المطلق في أي ظرف من الظروف، أما هذه العوامل فهي:
1.                نسبية الشعور الإنساني، ذلك أن الفرد يتحسس الأشياء المحيطة به تبعاً لعوامل كثيرة ومتنوعة، منها ما يرتبط بالشعور المباشر كالحس واللمس والسمع والبصر وغيرها، بالإضافة إلى المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تجعل الشعور الإنساني بالأشياء المحيطة به مختلفا في حجمه ومستواه بين أفراد الجنس البشري في الزمان الواحد والمكان الواحد، وبالنسبة إلى الفرد الواحد بين آن وآخر، ولا يمكن تصور واحد من بني البشر وقد تمكن من الشعور بالأشياء المحيطة به على نحو كلي، ولهذا فإن كل الأحكام المرتبطة بهذا الشعور هي أحكام نسبية.
2.                تشكل المعارف التي يكتسبها الإنسان خلال حياته مصدراً أساسيا آخر من مصادر حكمه على الأشياء المحيطة، وعلى قدر ما يمتلك من المعارف على قدر ما تصبح أحكامه أكثر دقة، واوسع في شموليتها، واقرب إلى المصداقية، ولكن الأمر المؤكد أيضاً أن هذه المعارف لا يمكن أن تصل بالنسبة إلى فرد من أفراد الجنس البشري إلى حد المعارف المطلقة، وبالتالي فإن الأحكان التي يقررها حول الأشياء إنما هي نسبية أيضاً لارتباطها بحجم المعلومات والمعارف التي يملكها، وبالتالي فإن اليقين المطلق من الناحية المعرفية يوجب بالضرورة معارف مطلقة وهو أمر يستحيل وجوده بالنسبة إلى الإنسان، وبالتالي فإن الأحكام الوجودية هي أحكام نسبية ايضاً.
3.                تأتي العمليات العقلية في الموقع الأول من حيث الأهمية، وهي من أكثر العمليات أهمية وتأثيرا في تكوين المعارف عند الإنسان، فمن خلال القدرات العقلية التي يتصف بها الفرد يستطيع أن يرتب معطيات الشعور، ويربط بين مكوناتها، ويستخلص منها ما هو أساسي وما هو فرعي، ويعطي لكل معرفه موقعها الصحيح قياساً إلى المعارف الأخرى، مما يجعل الأحكام التي يستخلصها أكثر مصداقية وتوافقا مع الواقع، ومن الطبيعي أن العمليات العقلية الأكثر نضوجاً قادرة على استيعاب معطيات الواقع بدرجة أعلى، ولكن المشكلة تظهر مرة أخرى عندما يلاحظ أن العمليات العقلية التي يتصف بها بني البشر إنما هي نسبية ايضاً وتخلف بين أبناء البشر في الزمان الواحد والمكان الواحد، فضلاً على اختلافها بالنسبة إلى الفرد الواحد بين مراحل عمره المختلفة، مما ينفي إمكانية القول مرة أخرى بأن العمليات العقلية لدى الإنسان قادرة على أن تصدر أحكاماً وجودية مطلقة في مصداقيتها وتطابقها مع الواقع.
      إن نسبية المعرفة التي يملكها الإنسان عن الأشياء المحيطة به تجعل مظاهر الاختلاف والتناقض واسعة حتى بالنسبة إلى الأشياء القريبة من وعيهم ومصالهم، فقد تتفق مجموعة من الأفراد على هدف واحد ولكنها تختلف بالطرق والوسائل التي تساعدها في تحقيق الطموحات التي يتطلع إليها أفراد المجموعة، وتصل مظاهر الاختلاف في حياة الناس في القضايا التي تمس مصالحهم وتصوراتهم إلى حد التناقض والصراع، برغم أن فكرة التوافق يمكن أن تساعدهم بدرجات أكبر، فإذا كان هذا حال الناس في القضايا القريبة من وعيهم، والملاصقة لحاجاتهم، والتي يشملها شعورهم المباشر، ولديهم الكثير من المعارف عنها المتراكمة من خبراتهم وتجاربهم، ويجتهدون في تحليلها منطقيا وعقليا، وبرغم ذلك لا يستطيعون الوصول إلى أحكام يتفقون بشأنها يمكن أن تصل بهم إلى درجة اليقين، فما هو حالهم مع معارف الأشياء غير المنظورة التي لا تخضع بالأساس لأي شعور مادي، ويفتقر الإنسان إلى المعارف والمعلومات الكافية عنها، بالإضافة إلى أن القدرات العقلية للإنسان لا يمكن أن تأخذ بتحليل معارف غير موجودة بالنسبة إليها أصلاً.
     ومثال ذلك أن الإنسان لم يكن قادر على فهم قوانين الطبيعة عندما كان يفسر الظواهر بالقوى الإلهية الكامنة فيها، ويجعل منها آلهة مستقلة بذاتها، ذلك مجال الشعور بالنسبة إليه كان محدودا للغاية، والمعارف التي يملكها عن الأشياء قليلة، وكذلك قدراته العقلية في التحليل والتمييز كانت ضعيفة، وبرغم ذلك كانت له أحكامه الوجودية التي تدفعه إلى نفي الاعتقاد بالإله الواحد، في الوقت الذي يسيطر عليه إحساس بكمال معرفته، وسلامة المنطق الذي يأخذ بها، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة البقرة "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)"
    في سورة البقرة أيضاُ يصف القرآن الكريم حال أولئك الذين يجعلون من أنفسهم مصدرا للإصلاح وتحسين الأحوال، دون اعتمادهم الطرق التي شرعها الله لعباده، فتأتي أعمالهم على غير ما يتوقعون من فساد وإضرار بحق غيرهم، كما يندفع بعضهم إلى تشريع القتل أحيانا وحث الناس عليه اعتقاداً منهم بأن هذا شكل من أشكال الجهاد في سبيل الله، وطريق الخلاص إلى الجنة، غير أن هؤلاء في حقيقة الأمر يفسدون في الأرض ويسعون فيها خراباً، والمشكلة أنه لا يشعرون بما يقدمون عليه من إساءة للدين وللمجتمع، ولما يجعلهم يتعدون حدود الله عز وجل، وفي ذلك يقول الله عز وجل فيهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)"
    ولا ينطبق هذا القول الكريم على جماعة محددة تاريخياً فحسب، بل يشمل كل أولئك الذين يجتهدون من تلقاء أنفسهم، دون معرفة كافية، وإلمام شامل بجوانب المشكلة التي يقدمون على النظر فيها، ويأخذون بإصدار الأحكام من رؤى ضيقة، فإذ بهم يسهمون في تخريب البلاد والعباد، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً، ولكنهم في حقيقة الأمر إنما هم يفسدون في الأرض، ويتوافق ذلك كل التوافق مع قوله جل وعلا في سورة الكهف {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) }
    ويأتي عدم الشعور بالشيء أيضاً لكونه خارج عن دائرة الإدراك الواعي، فقد يتمكن المرء من الإحاطة بموضوع اهتمامه، ويستوعب الجوانب التي يعتقد بأنها من أسبابه الكلية، غير أن الوقائع تكشف فيما بعد أن جوانب أخرى لم تكن منظورة بالنسبة إليه وهي خارج دائرة شعوره بها، وتفسر قصور معرفته، والحيلولة بينه وبين معرفة الأشياء على ما هي عليه، فالإقدام على فعل السيئات، والتمتع بها، يصرف الوعي الإنساني عن إدراك الحقائق، ويجعله عرضة للأخطار التي تأتيه من حيث لا يدري، ومن حيث لا يشعر، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة النحل "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)." وفي سورة الزمر "كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) (سورة الزمر)."
    لقد قدم أناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وسرها وطبيعتها، فكان توجيه الله عز وجل واضح تمام الوضوح في سورة الإسراء، "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85)"، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أحكام الإنسان عن الأشياء المحيطة به، توجب مستويات من المعرفة تؤهله ليكون قادرا على استيعابها وفهمها وتحليلها، ومع غياب المعرفة التي تؤهله لذلك تنفي إمكانية قدرته على إصدار الأحكام المناسبة لها عامة، ويزداد العجز الإنساني أكثر في الأحكام الوجودية الكبرى التي تستوجب دائرة إدراك واسعة للغاية.
     وبناء على ذلك، فإن معرفة الله عز وجل، والإيمان به لا يمكن أن تأتي بالطريق العقلي القائم على رصد الأشياء وجمع المعلومات عنها وتحليلها، كما هو حال الإنسان في تفسيره للظواهر المشمولة في عالم شعوره وأحاسيسه، إنما تأتي من طريق التحليل العقلي للآليات المعرفة التي يمارسها في حياته، والتي ثبتت نسبيتها المنطقية، والإنسان لا يستطيع أبداً البرهنة على كمال معرفته حتى في المجالات المحسوسة بالنسبة له، فضلاً على الأشياء الخارجة عن دائرة وعيه، ولهذا فالتفسير المنطقي يؤدي بالضرورة إلى معرفة المطلق من حيث كماله، وليس من حيث ماهيته وطبيعته، فالإنسان يعرف وجود المؤثر  من خلال الأثر الدال عليه، وليس من خلال معرفة طبيعته وماهيته.
    ولهذا فإن من خصائص الإيمان بالله عز وجل، كما يصفها القرآن الكريم في أول آيات سورة البقرة "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)" والإيمان بالغيب، هو الإيمان بالمطلق دون أن يقضي ذلك بضرورة التعرف على ماهيته وطبيعته، ذلك أن معرفة المطلق من حيث الإقرار بوجوده لا توجب المعرفة بالضرورة بماهيته، وإذا كانت المعرفة الأولى نتيجة منطقية لنسبية المعرفة عند الإنسان، فإن هذه النسبية نفسها هي التي تفرض منطقيا الجهل بماهية المطلق وطبيعته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق