الإيمان باليوم الآخر.. بين التصورات التقليدية له وتطورات المعرفة العلمية.


يشكل الاعتقاد باليوم الآخر، "يوم الحساب"، أو "يوم المعاد" بمسمياته المتعددة، واحدا من الأصول العقائدية التي ينبغي الإيمان بها والتسليم بوجودها بالنسبة إلى المسلمين في العالم كافة، وهو صلة الوصل التي تجمع العقائد الدينية في التاريخ الإنساني، فقد اتفقت بشأنه الديانات الإنسانية القديمة، والديانات السماوية الثلاث، بما في ذلك عقائد الفلاسفة الإلهيين في عصور الحضارة اليونانية، وفلاسفة الاغريق، في الوقت الذي يشكل التشكيك بهذا الاعتقاد مدخلاً للتشكيك بالديانات كافة لغياب الأسس العلمية التي يمكن الركون إليها للبرهنة على وجوده، إذ تكشف علوم الآثار المتتالية عن عمق الوجود التاريخي للإنسان على وجه الأرض الذي يصل في بعض التقديرات إلى أكثر من خمسين مليون عاماً، مما يجعل التفكير باليوم الآخر، وفق منطق المتشككين إن هو إلا شكل من أشكال الأساطير التي تسيطر على ثقافة الإنسان منذ القديم وحتى الآن.
والمشكلة التي تعزز رأي المتشككين في اليوم الآخر، أنه لا توجد لدى المؤمنين به أية تصورات متقاربة حول ماهيته وطبيعته وكيفية تحققه، فعلى الرغم من اعتقاد الفلاسفة الصينين والفرس والهنود والإلهيين اليونانيين، وحتى الديانات السماوية باليوم الآخر، حيث يجمع الله الناس لمحاسبتهم على ما اقترفوه من أعمال، ويثيبهم على ما فعلوه من خير أو شر، غير أن أي منهم لا يتوافق مع الآخر حول طبيعة ذلك اليوم وماهيته، مما يجعل التصورات المطروحة لا تخرج عن كونها رؤى فلسفية متوقعة لما يمكن أن تكون عليه الأحوال في ذلك اليوم، وسرعان ما يجد المتشككون به في ذلك دليلا على ضعف مصداقية الأسطورة التي يبنيها الفكر الديني لليوم الآخر بصورة عامة.
وقد وردت في القرآن الكريم مجموعة كبيرة من آيات الذكر الحكيم التي تبين وجود هؤلاء المتشككين منذ القديم في تاريخ الإنسان، وكانوا هم على مدار التاريخ من يحملون راية الاعتراض على الرسل، ويجدون في الإيمان باليوم الآخر أشكالاً من التفكير الخرافي، وفي ذلك على سبيل ما ورد في سورة البقرة (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)، فالحجة التي تتردد دائما أن الإيمان بالآخرة إن هو شكل من أشكال الخرافات والأساطير التي يبنيها الناس لعجزهم عن التفكير، ولكنهم سرعان ما يلتفون حولها، لتصبح بالنسبة إليهم ركائز أساسية يقيمون حياتهم عليها، وفي ذلك يقول الله عنهم في سورة الأنعام "بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)"، وفي سورية المؤمنين "يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)"
وتدل دراسات الأناسة، أو علم أصول الإنسان (الأنثروبولوجيا) أن الطرق التي يستخدمها الإنسان منذ القديم في عمليات دفن الموتى ترتبط ارتباطاً وثيقا بأشكال تصوراته لمفهوم الآخرة، فحيث ساد الاعتقاد بأن النار والنور مصدرهما واحد، وهما أصل الخير، مقابل الظلمة أصل الشر، انتشرت عقيدة حرق الموتى لدى الهنود، ورمي ما يتبقى من رماد الجسد في البحار إما بتغليفه بزجاجة محكمة الإغلاق، أو بخلطه مع ماء البحر، وغيرها، بينما اعتقد المصريون القدامى بعودة الروح إلى الجسد، مما جعلهم يجعلون من مقابر الموتى أمكنة تتوفر فيها كل شروط الاتحاد المتوقع من جديد بين الروح والجسد، أما الفلاسفة الإلهيون الذين اعتقدوا بقدم العالم، فقد رفضوا محدودية الزمان، ومضوا في فهمهم لليوم الآخر  على أساس تصوراتهم لاستمرارية الوجود دون أية انقطاعات في مساراته، ولهذا ارتبطت تصوراتهم لليوم الآخر  بما يسمى بنظريات التقمص والفسخ والرسخ وغيرها من المفاهيم التي تجلت بأشكال مختلفة في تاريخ الإنسان، والتي تجعل قيمة الإنسان في روحه دون جسده، ومع موت الإنسان فإن عودته إلى الحياة إنما تأتي عبر روحه، أما جسده فيؤول إلى الاندثار، ولا قيمه له، بينما تتمثل في روحه مشاعره وأحاسيسه وعواطفه ومعارفه المختلفة، مع تباين مستويات القدرة في التعبير عما في نفسه من أشياء، فما أن يموت الإنسان، وتفارق روحه جسده حتى يكتب الله لها الركون في جسد آخر يولد من جديد ويكون فيه حسابه على ما اقترفه من أفعال في حياته الأولى.
ويمضي الفلاسفة الإلهيون عامة، بتقديم رؤى فلسفية مختلفة حول علاقة الروح بالجسد، وكيفية الحساب، وكيفية الانتقال من جسد إلى جسد، في سلم صاعد تارة أو هابط تارة أخرى، أو أفقي تارة ثالثة، تبعاً لما تنطوي عليه هذه النظرية أو تلك من أسس فكرية تتعلق بتصوراتها للوجود عامة، والوجود الإنساني خاصة.
أما العقائد السماوية الثلاثة، فكان لها شأن آخر، فهي لم تأخذ بتصديق أي من الأفكار السابقة، أو الرؤى الفلسفية ذات الصلة بطبيعة اليوم الآخر، في الوقت الذي اجتهد فيه الكثير من الفقهاء المسلمين ومضوا إلى نفي ما سبق من نظريات ورؤى، في حين اتخذ بعضهم الآخر موقفاً محايداً، واجتهد فريق ثالث بوضع صور مختلفة لليوم الآخر، صور تقوم على أساس مماثلة ما هو قائم في أبعاده المادية، فالجنة التي وصفها الله عز وجل هي تلك الأماكن التي تنطبق عليها الصفات الحقيقية، وليست الصفات المجازية، فالنهر  الذي وصفه الله عز وجل بأنه نهر من عسل، إن هو في حقيقته إلا نهر من عسل حقيقي، لا يختلف شأنه عن شأن العسل الذي يستخدمه الناس في حياتهم اليومية، والنار التي وصفها الله عز وجل في القرآن الكريم، إن هي إلا نار حقيقية تكوي الوجوه كما تكوى في الحياة الدنيا إن اقترب منها الفرد، أما وجودها الزماني والمكاني فهو بعلم الله، ولا يمكن تصوره من قريب ولا من بعيد، وفي سياق هذا التصور فإنه لا يجوز دفن الموتى بالطريقة الهندية، ولا بطريقة المصريين القدامى، ولا بأية طريقة غير الطريقة التي يأخذ بها المسلمون في الوقت الراهن، مع اختلافات بسيطة تتعلق بالشروط الثقافية للمجتمعات المحلية.
ويجد المتشككون باليوم الآخر، في هذه التصورات على أنها أشكال من السذاجة والبدائية في التفكير، فقد تكون التفسيرات الرمزية للحياة الأخرى أقرب إلى المنطقية والعقلانية في فهم اليوم الآخر، فقد تنطوي كلمة "النار" مثلاً على معاني ودلالات تختلف في مضمونها عن المعاني والدلالات التي يفرضها المصلح المتداول في هذا الزمان أو ذاك لمفهوم النار، ذلك أن هذا التعبير، شأن كل التعابير الأخرى، معنى لغويا مستمد من اجتماع حروفه، ويختلف باختلاف سياقه الثقافي والاجتماعي والزماني والمكاني، ومعنى آخر اصطلاحي مستمد من ظروف الزمان والمكان، ولا تخرج معانيه عن سياقاته هذه، وإذا ما أخذ بعضهم بفرض دلالات المصطلح (المستمدة من زمانهم ومكانهم) على دلالات المفهوم (في أصوله وجذوره) وجعلها أساسا له، فإن في ذلك تشويه للحقيقة، فإذ شاءت الظروف وتعلم الفرد دلالات كلمة "المولى" في سياق زماني ومكاني يعيشه، على أنها ترادف كلمة الراعي والنصير ، كما هو الحال في قوله تعالى عن الرسول الكريم "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" (سورة التحريم/ 4)، فإن دلالات الكلمة في هذا السياق لا تتطابق مع دلالاتها في سياق آخر  كما هو الحال في قوله عز وجل "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (سورة فصلت/34) والتي بمعنى المودة العميقة والصداقة القائمة على المساواة، وتخلف دلالات الكلمة نفسها في قولهم بأن "زيد بن حارثة هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" التي تعني التابع والعبد، وبين دلالات المفهوم تبعد واضح بحسب السياق، كما دلالات كلمة "الكفار" في قوله جل وعلا "كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ (سورة الحديد/20)، تختلف عن دلالات الكلمة نفسها في قوله تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ" (سورة التوبة/68)
إن محاولات إسقاط الدلالات التي ينطوي عليها النص القرآني لصور اليوم الآخر، كما يدركها هذا الفريق من العلماء أو ذاك يجعل لها معنى واحداً لا غيره، الأمر الذي يناقض منطق اللغة العربية من جهة، ويجعل من إمكانية فهم النصوص في ضوء تطورات المعرفة الإنسانية صعبة للغاية، وتهدد مضمون النص بكليته، ومثال ذلك ما حدث عندما اتخذت شريحة واسعة من المسلمين والمسيحيين موقفا سلبيا من تصورات العلم لكروية الأرض، ووصفوا ذلك بالكفر  والخروج عن الاعتقاد بالله عز وجل، وعندما باتت كروية الأرض باتت من القضايا المسلم بها علميا، حتى شكل ذلك عاملاً جديدا من عوال انتشار مظاهر التشكيك بالخالق بسبب ما اتخذه المتدينون من مواقف سلبية جاءت بالأساس مبنية على فهم واحد للعالم والطبيعة والإنسان، ولم يكونوا قادرين على أن يقدموا أية براهين منطقية تدل على صدق أفكارهم، وحتى لا يؤدي تشددهم في إسقاط تصوراتهم على العالم إلى مزيد من عزلتهم، وحتى لا تصبح دعواتهم إلى التوحيد خارج السرب، راحوا يكيفون أنفسهم من جديد مع تطورات المعرفة الإنسانية، ليجعلوا كروية مسألة علمية لا تتصل بالمسائل العقائدية، وأكثر من هذا راح بعضهم يجتهد ليكتشف كروية الأرض من النص القرآني نفسه.
في ضوء هذا التصور لا يمكن الجزم بدلالات محددة للنص القرآني فيما يتعلق بالحياة الآخرة، وكل محاولة لتحديد المعنى المستخلص من تجربة هذا الباحث أو ذاك، أو من تجربة هذا العالم الديني أو غيره، وجعل ذلك المعنى جزءا من العقيدة، مما يجيز تكفير من لا يقول بها، فإن في ذلك ما يناقض منطق اللغة العربية من جهة، ويعمق من الفجوة التي تفصل المنطق العلمي عن المنطق الديني، ويمكن أن يساهم ذلك الجزم على رفض فكرة الآخرة كليا بالنسبة إلى شرائح اجتماعية وثقافية متعددة، خاصة عندما تأتي تلك الدلالات بما يعارض ما استخلصته البشرية من معارف وعلوم باتت أكثر يقينا من تلك التي يتصورها بعض رجال الدين، ويجعلونها أساسا لفهم الحياة بعد الموت.
إن المشكلة التي يعاني منها المفكر والمثقف اليوم، وعلى امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي تشكل واحدة من عوامل التشكيك بالعقيدة الإسلامية خاصة، والعقيدة الدينية بصورة عامة، هي في التفسير المنطقي لعالم ما بعد الموت، أو للحياة الأخرى، فالتفسيرات الدينية مبنية في كليتها على الاعتقاد بالله عز وجل، ولكنها لم ترتكز على أي بعد منطقي مستمد من الدراسات العلمية التي يكتشفها الإنسان يوما بعد آخر، فالاعتقاد بأن الله عز وجل موجود، وهو خالق الكون، يوجب الإيمان باليوم الآخر، من حيث التسليم له، والإقرار بما يوحي به، دون أن يتدخل في ذلك العقل الإنساني، ودون أن يتدخل أيضاً أي شكل من أشكال التفكير، فقد يؤمن أحدهم بأن الله عز وجل خالق الكون، بحكم أن لكل شيء في هذا الوجود عله تفسره، والله عز وجل هو علة العلل، أو العلة الأولى التي لا عله لها أو بعدها، كما يقول أرسطو، فالإيمان بالخالق عز وجل يمكن أن يتأتى بشكل أو بآخر من سياقات عقلية وفكرية، تعبر عن حقيقة الكون تارة، وقد تكون نتاجا للتفكير الإنساني نفسه، وبصرف النظر عن هذا وذاك، فإن البعد المنطقي للإيمان بالخالق أمر ممكن تماماً، أما الإيمان بالحياة الأخرى، والاعتقاد بها، فهم الأمر الأكثر تعقيدا، فلا يأتي هذا الإيمان إلا من باب التسليم لهذا الخالق، ومن باب الثقة به، والاستجابة لما أوحى به لخلقه، ومن كون الحياة الآخرة إخبار منه جل وعلا لما هو عليه الحال في المستقبل بالنسبة إلى الإنسان، وإلى الوجود بكليته.
وبالنظر على أن العقيدة الدينية تشكل منظومة فكرية متكاملة، فإن ضعف البرهنة على أي جزء فيها، يمكن أن يمتد إلى الأجزاء الأخرى، وفي هذا السياق فإن طبيعة التصورات التي يقدمها علماء الدين حول مفهوم الآخرة، والتي يستنبطونها من القرآن الكريم، تشكل عاملاً أساسياً من العوامل التي تساعد في تعزيز الإيمان والاعتقاد بالله عز وجل، ويمكن بالمقابل أن تساهم في تقويض دعائم هذا الإيمان، وهذا الاعتقاد، خاصة وأن الإنسان المعاصر لم يعد قادرا على جعل علماء الدين مصدرا وحيدا لمعارفه وتصوراته، فالعلم بما فيه من منتجات معرفية وثقافية بات يسيطر على جوانب الحياة كافة، وباتت هذه المعارف تنافس مصدرية رجال الدين، مما يدفع بالمفكرين وطلبة المعرفة إلى تقييم ما يقدمه علماء الدين من تصورات في ضوء تطورات العلم الحديث، فلم يعد الشاب منعزلاً عما يدور حوله من معارف وعلوم، كما كان الحال في الماضي، وليس من المنطق في شيء الدعوة إلى تجاهل ما يقدمه العلم من منجزات معرفية، حتى تستقر التصورات التي يقدمها علماء الدين في وعي الشباب، فذاك طريق يسلكه الضعفاء من رجال الدين من جهة، ومن شأنه أن يعمق الفجوة من جديد بين التفسيرات الدينية المعطاة للوقائع الطبيعية والكونية وبين التفسيرات العلمية التي تنمو باطراد، وتوجب على علماء الدين فهمها واستيعابها حتى يقدموا التصورات المكافئة لها، والقادرة على احتواء الشباب ممن يتلقون المعارف والعلوم بشكل واسع.
ويقضي ذلك بالضرورة التحرر من المفاهيم والتصورات، والتي بنيت في الماضي عن اليوم الآخر، وطريقة الحساب والثواب والعقاب، وجاء بناؤها منفصلاً تماما عن تطورات العلم التي كانت محدودة للغاية في ذلك الحين، كما جاء بناؤها استجابة لكونها مسألة إخبارية من الله جل وعلا، دون أن يشتغل الفكر او العقل بالبرهنة عليها بوصفها حقيقة قائمة بذاتها، وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا بالنسبة إلى إنسان اليوم الذي اصبح يجعل من التطور العلمي معيارا يعتمد عليه في الحكم على الأشياء، فالاعتقاد باليوم الآخر بوصفه نتيجة إخبارية عن الله عز وجل حقيقة لا مناص منها، غير أن ذلك لا ينفي ضرورة أن يكون لهذا الاعتقاد دلائل وجودية في الكون والطبيعة المجتمع أيضاً.
إن القول بضرورة الإيمان باليوم الآخر بوصفه مسالة إخبارية من الله عز وجل وحسب، يجعل منها مسألة خارجة عن الزمان والمكان، وخارجة أيضاً عن مستوى إدراك العقل البشري لها، وإذا كان في مقدور الكثيرين أن يتحققوا من وجود الله عز وجل بالبراهين المنطقية والرياضية، وهي البراهين التي بنى عليها الفلاسفة الإلهيون إيمانهم بالخالق، فإن هذا المنهج غير قابل للاستخدام في ظل التصورات الراهنة لمفهوم اليوم الآخر، التي يقدمها علماء الدين الذين لا يرون فيها إلا مسألة إخبارية، ووفق دلالات المفاهيم التي يعتقدون بتطابقها مع الواقع، حتى لو جاءت هذه التصورات مخالفة للحدود الدنيا من المنطق العقلي الذي بات يفرض وجوده بقوة على مستوى الفكر، فحقيقة "اللانهاية" على مستوى الزمان والمكان، مثلاً أصبحت تشكل أساساً متينا من أسس المعرفة الكونية، وهذه الحقيقة فرضت نفسها على كل ذي فكر، ولم يعد في مقدور أي من المفكرين التحرر منها، فالزمان لا بداية له، ولا نهاية، وكذلك المكان، خاصة عندما يأخذ المفكرون بالحديث عن ملايين السنين الضوئية من المسافات الكونية الواسعة، أو عندما يأخذون بالحديث عن مئات الملايين من السنين عن عمر الأرض  أو الأفلاك السماوية واسعة الانتشار، أو عندما ينتقل الحديث عن مئات آلاف من السنين من عمر الإنسان في هذه المعمورة، ويؤدي ذلك كل إل القول بنفي الحدود الزمانية والمكانية للوجود.
غير أن هذا التصور يناقض تماما مفهوم "حياة الآخرة" كما يقدمها الكثير من علماء الدين وفلاسفته حتى اليوم، الرؤية التي تجعل للزمان والمكان حدوداً تنتهي بيوم الحساب الأكبر، وبرغم ذلك فإن الصور التي يقدمها علماء الدين، ويؤكدون على جعلها مسألة عقائدية، فما زالت غير واضحة المعالم، فهل ينتهي تاريخ الإنسان في يوم الحساب الأكبر أم ينتهي تاريخ الطبيعة أو تاريخ الكون ؟، أم أن يوم الحساب هو يوم تتجدد فيه مظاهر الحياة في أرض الله الواسعة، وفي كونه الرحب؟.
لا يمكن لعلماء الدين أن يقدموا وفق هذه التصورات أية رؤى لهذا المستقبل، ولا يستطيعون أيضاً أن يساهموا بأية إجابات تلبي حاجات الشباب المتطلع إلى المعرفة، والمشكلة الأكثر تعقيدا أنهم يجعلون من التصورات التي يقدمونها مسائل عقائدية توجب الكفر والخروج عن العقيدة، فلو أن أحدهم حاول أن يقدم فهما ليوم الحساب على ما يحمله من دلالات رمزية للمفاهيم الوارد ذكرها في القرآن الكريم، فليس من الصعوبة أبداً من يأخذ بتكفيره وإخراجه من دائرة الإيمان، لا لكونه قد خرج عن النص، إنما لأنه خرج عن الدلالات التي يحملها النص بالتصور الذي يقدمه علماء الدين أنفسهم، فالقول بالتفسير الرمزي للثواب والعقاب مثلا ولمفاهيم الجنة والنار  يوجب القول بكفيره لأنه التفسير الرمزي يعني بالنسبة إلى علماء الدين نفي الاعتقاد بالأخرة، وفي حقيقة الأمر هو نفي لتصوراتهم هم عنها، وليس نفي لها في حقيقتها.
والمشكلة أن الشرائح الاجتماعية التي استقرت في يوم من الأيام على التفسير الديني ليوم الحساب على أساس كونه مسألة إخبارية من الله عز وجل، وكان لهذا الاعتقاد سياقه الزمان والمكاني الذي يسوغه، وخاصة في سياق غلبة التصورات الدينية في مراحل الحياة المختلفة لأبناء هذا الشرائح، وصار منطقيا بالنسبة إليهم، فإن هؤلاء يطالبون الشرائح الجديدة من الشباب الذين يتطلعون إلى المعرفة، ويرتكزون في حياتهم على المعارف العلمية، بالأخذ بما أخذوا به، والاكتفاء بما اكتفوا به، دون النظر إلى الفروق الفردية والفروق الزمانية والمكانية التي تفرض اختلافات كبيرة في التفكير والتحليل وطرق المقارنة وغيرها، مما يعزز فجوة كبيرة بين الطرفين، فما هو منطقي بالنسبة لمن تلقى تعليمه في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين مثلاً، لا يتصف بالمنطقية نفسها بالنسبة لمن يتلقى تعليمه في العقد الثاني أو الثالث من القرن الحادي والعشرين، وما كان كافيا لمن تلقوا علومهم في سياق زماني محدد، ولا يعد كافيا لمن يتلقى علومه في سياق آخر، وفي ذلك تكمن الخطورة في عملية الإسقاط.
إن الحقائق الكونية للوجود عامة، وللوجود الإنساني خاصة توجب الإيمان باليوم الآخر، وتوجب الإيمان بيوم الحساب الأكبر، ولكن وفق تصورات ومفاهيم مختلفة تماما عن تلك التي أنتجتها مراحل تاريخية سابقة في مستويات المعرفة والعلوم، الأمر الذي يوجب أيضاً النظر إلى مفاهيم "اليوم الآخر"، و"الجنة" و"النار"، و"الثواب" و"العقاب" برؤى مختلفة عن تلك التي استقرت في الوعي الديني عامة، والإسلامي منه خاصة، فالتصورات القائمة تسهم في تعزيز الفجوة بين آليات التفكير العلمي وآليات الاعتقاد الديني، وما لم يتم تجسير الفجوة فإن التطور العلمي سيشكل واحداً من أكثر التحديات التي تجابه الفكر الديني مستقبلاً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق