تطور المعرفة العلمية وتحديات معاصرة أمام الفكر الديني


    تشكل القطيعة بين مكتشفات العلوم المتطورة في مجالات الفضاء والاتساع المكاني بالإضافة إلى تطور دراسات الأنثروبولوجيا واصل الإنسان ومكتشفات الدراسات ذات الصلة بالآثار والمستحاثات عوامل جديدة وتحديات معاصرة تجابه الفكر الديني وتجعل منه غريبا عن زمانه ومكانه، مما يدفع العديد من الشباب الذين يتطلعون إلى المعرفة إلى إثارة الشكوك حول صورة العالم التي يقدمها الفقيه الديني، أو عالم الدين، فإذا ما أخذ المرء بتحليل ما تقدمه العلوم من نتائج حول اتساع المكان وعظمة الوجود فإنه يتلمس اتساعا لانهائياً، يفوق قدرات العقل البشري على تصوره، وعندما يقرأ عن المسافات الكونية التي تفصل الكواكب عن بعضها، فإنه يجد نفسه أمام ملايين السنين الضوئية التي تفضل الكواكب عن بعضها، وقد تنشأ كواكب ونجوم وتندثر بعد مئات الملايين من السنين دون وصول صورها أو الأنوار المنبعثة منها إلى الأطراف اللامتناهية من العالم، فالمكان لا حدود له، و لا يمكن تصور نقطة مركزية لهذا العالم، لأن اية نقطة يمكن إدراكها على أنها مركزية في هذا العالم، وفي لحظة من لحظات المعرفة، يمكن أن تكون بحد ذاتها تابعة لنقطة مركزية أخرى أكثر اتساعاً وابعد عمقاً.
     وما يقال في اتساع المكان يقال أيضاً في اتساع الزمان، فالمكتشفات العلمية تدل على أن بداية العالم ليست أكثر من وهم يتخيله الناس، وكذلك الحال مستقبله، فإذا دلت الدراسات الطبيعية على أن تاريخ الأرض يعود إلى مئات الملايين من السنين، وربما يجد الباحث أن جزءا من مكوناتها يعود في تاريخه إلى مئات الملايين من السنين أيضاً، فإنه يتلمس عمقاً في الزمان لا بداية له، ولا نهاية، ويمتد الأمر أيضاً إلى تاريخ الإنسان، فقد دلت دراسات عديدة تتصل بعلوم الآثار والمستحاثات على أن تاريخ الإنسان يعود في هذا العالم إلى أكثر من خمسين مليون عام.
    وأمام هذه الصورة للعالم، غير المحددة على مستوى الزمان والمكان، تصبح صورة العالم أو الوجود التي يقدمها الفقيه الديني، أو عالم الدين، منفصلة تماما عن صورة العالم أو الوجود التي يقدمها العلم، فالله جل وعلا خلق آدم من تراب، ومنه خلق البشرية جمعاه، ويقدم علماء الدين، بتياراتهم العقائدية المختلفة، رؤاهم حول كيفية خلق الله عز وجل لآدم عليه السلام، ولكن هذه الصورة سرعان ما تصبح هشة وضعيفة إذا ما تمت مقارنتها مع ما يقدمه العلم من رؤى وتصورات في المجال نفسه، فإذا جازت المصادقة على رواية خلق آدم، كما يقدم صورتها الفكر الديني عموما، فإن العمق التاريخي لآدم عليه السلام لا يجاوز عشرة آلاف سنة في أبعد تقدير، وقد تصل التقديرات إلى عشرين أو ثلاثين الفاً من السنين، ولكن العلم يقدم صورة عن الإنسان تعود إلى ملايين السنين، وليست مجرد بضعة آلاف، أما العمق التاريخي للكرة الأرضية، وهي لا تجاوز كونها ذرة ترابية منجرفة في زوبعة غبارية لا عدد يحصى لذراتها، فهي خارج التفكير الديني، وربما يعد التفكير فيها شكل من أشكال الخروج عن العقيدة والإيمان، ذلك أن الفكر الديني لا يجد نفسه معنيا بالإجابة على التساؤلات الكبرى ذات الصلة بالكون والطبيعة لما قد يسببه ذلك من تشكيك في صورة العالم والوجود التي يقدمها هذا النمط من التفكير الإنساني.
    وبالنظر إلى صعوبة التوفيق بين صورة الوجود، كما يقدمها العلم، الصورة التي تنتفي فيها حدود الزمان والمكان،  وصورة الوجود كما يقدمها الفكر الديني التي تمتاز ببداية محددة للعالم، أو على الأقل بداية محددة لوجود الإنسان، ونهاية محددة أيضاً مع عدم القدرة على تحديد معالم هذه البداية وهذه النهاية، فإن دعاة الفكر الديني يفضلون عدم الغوص في مثل هذه التساؤلات لما يمكن أن يترتب عليها من شكوك حول سلامة الصورة التي يقدمونها، ويصل الأمر لدى الكثيرين منهم إلى تحريم التفكير بطبيعة الوجود والطبيعة لخروجه عن مستويات إدراك العقل والتفكير الإنسانيين، وقد يصل الأمر أيضاً إلى حد التكفير بما يقدمه من صور يمكن من خلالها فهم هذا العالم، كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من علماء الدين الذين جعلوا الإيمان بكروية الأرض شكلاً من أشكال الكفر، وعدم الإيمان بالله عز وجل، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل امتدت المشكلة إلى تكفير من يستخدم بعض المنجزات علمية والتطورات التقنية التي حققها الإنسان، وتاريخ التحريم في هذا المجال واسع، بدءاً من تحريم استخدام المذياع، إلى استخدام التلفزيون، وحتى تحريم الركوب بالطائرة..
     غير أن التطور العلمي يمضي في مساراته يوما بعد آخر، ويدفع كل من كان يرفضه لاعتبارات دينية في الماضي إلى التكيف معه فيما بعد والاندماج فيه، فكل الذين كانوا يجدون في اقتناء وسائل الاتصال الحديثة حراماً وخروجا عن العقيدة، باتوا يتسابقون لبناء البرامج التعليمية في هذه الوسائل نفسها، وصاروا يتسابقون للمشاركة فيها، مما يجعل التساؤل مشروعا حول مصداقية الفتوى الدينية وشرعيتها والأسس التي تقوم عليها، فإذا كان استخدام وسائل الاتصال محرما بالفعل، كما كان الأمر شائعاً من ذي قبل، فكيف يمكن تسويغه فيما بعد، وإذا كان الاستخدام مشروعاً، كما هو في الوقت الراهن، فكيف كان يتم تحريمه في الماضي؟؟.
    لقد أثارت هذا التغيرات السريعة في المواقف التي يتخذها الكثير من علماء الدين إزاء تطورات العلم واستخداماته المتعددة الشكوك حول بنية الفكر الديني بكليته، وبدا ذلك واضحاً في الأعمال الأدبية والسياسية والاجتماعية التي قدمها أدباء ومفكرون على امتداد الوطن العربي والعالم، وسرعان ما أصبحت الفجوة تتسع بين نمطي التفكير حتى صارت أقرب ما تكون إلى حد القطيعة، فمن يجد نفسه معنيا بالفكر الديني، ويشكل بالنسبة له القاعدة التي يبني عليها تصرفاته وأعماله ومشاريعه في حياته، يجد نفسه أيضاً غير معني بفهم تطورات العلم ولا بالصور التي يقدمها عن الوجود والعالم الذي يعيش فيه، وهو غير معني أيضاً ما إذا كانت هذه الصور صحيحة أو خاطئة، وتظهر معالم القطيعة مع الفكر العلمي في انفصال ما يتعلمه المرء في المعاهد العلمية، والجامعات عما يساعده في تطوير فهمه لصورة العالم والوجود، ذلك أنه لا يشعر بحاجته إلى تطوير هذا الفهم الذي استمد عناصره من تفكيره الديني، واستقر على صلاحه وسلامته وتطابقه مع الواقع، في حين تبقى صورة الوجود التي يقدمها العلم صالحة فقط للحصول على الشهادات العلمية التي يستفيد منها كثيرا في حياته العملية، ودون أن يكون لها أي أثر وجداني في بنية معرفته للعالم الذي يحيط به.
    وعلى طرف آخر، إن من يأخذ بالتفكير العلمي ويجعل منه القاعدة الأساسية التي يبني عليها برامج حياته، وينمي من خلالها ملكاته وقدراته ومهاراته، فيجد نفسه غير معني بما يقدمه الفكر الديني من تصورات للعالم وللوجود الذي يحيط به، وعلى قدر تمثله للفكر العلمي في فهم الطبيعة والكون، على قدر ما تنمو في وعيه قطيعة مع الفكر الديني تتجلى في رفضه لكل التفسيرات التي يقدمها الفكر الديني، حتى مع عجز العلوم الطبيعية والتقانية عن تفسيرها.
      إن الأخطار المترتبة على استقطاب الفكر لدى الإنسان في مدارات الفكر الديني لا تقل خطورة عن تلك الأخطار المترتبة على استقطاب الفكر في مدارات الفكر العلمي، ذلك أن كل شكل من أشكال الاستقطاب يحجب الفكر تماما عن النوع الآخر، ويمتد ذلك إلى المعطيات الاجتماعية والثقافية والحضارية، فالمجموعة الأولى التي وجد أصحابها أنفسهم، بوعي منهم أو بدون وعي، يمضون في مدارات الفكر الديني، ومستقطبين فيه، لا يستطيعون رؤية العالم إلا وفق تصنيفات مسبقة لا يمكن تغييرها، لأنها الأساس الذي بني عليه العالم، فالوجود كله يمضي إلى نهاية محتومة مقدرة بيوم الحساب الأكبر، والحياة الدنيا منفصلة تماما عن الآخرة، ولا يمكن تصور استمرارية الوجود إلا على هذا النحو، أما الحديث عن الكواكب والمجرات والكون اللامتناه في الزمان والمكان، وعن قدم العالم وأبديته فهي ليست أكثر من توصيفات للحياة الدنيا المقبلة على الفناء في آخر الزمان، أما الصراعات التي مكن تلمس وجودها في الأرض، وبين أبناء البشر، فليست أكثر من صراعات دينية بين المؤمنين والكافرين، وهي ناجمة عن التباين في حجم الإيمان بالخالق عز وجل، وفي مقدار التمسك بالعقيدة الدينية وفهمها وتطبيقها كما هي في حقيقتها، دون تحريف أو تزوير.
    وتمتد مظاهر استقطاب التفكير الديني إلى تفسير حتى الظواهر الطبيعية، فالأمطار والسيول والبراكين والزلازل والكوارث الطبيعية وكل ما من شأنه أن يتصل بالإنسان إن هي إلا قدر من الله الخالق عز وجل، وهي رحمة للناس، أو نتيجة ما أقدموا عليه من سلوك عدائي لبعضهم بعضاً، وكأن العالم بحوادثه المختلفة لا يمكن تصوره بمعزل عن الإنسان، وعن العلاقة التي يقيمها مع خالقه، وفي ذلك تكمن مظاهر القطيعة بين المؤمن الذي أستقطبه التفكير الدين وبين تطورات المعرفة العلمية التي تنمو باستمرار.
   وفي الطرف المقابل أيضاً، تسيطر معايير التفكير العلمي على أنماط التحليل والتركيب لدى الأفراد الذين يعتمدونه معيارا أساسياً في حياتهم، وسرعان ما يصبح العالم المدرك بالنسبة إليهم لا يجاوز عالم أحاسيسهم، على الرغم من أن بنية العلم نفسه، وما ينتجه من أفكار  تجعل منه عاجزاً عن فهم مكنونات الوجود، إلا أن سيطرة الفكرة تحجبهم، كما هو الحال بالنسبة إلى سابقيهم، عن رؤية نقيضها، ولهذا سرعان ما يأخذون بتصنيف وقائع الوجود والعالم وفق توصيفات مختلفة تماماً عن التوصيفات التي يقدمها الطرف الاخر، فالعالم يصبح مطلقا وغير محدد في بداياته، وهو مطلق وغير محدد في نهاياته، ولا هو مقيد في دنيا وآخرة، وكما أن وجود الإنسان لم يبدأ مع آدم عليه السلام، كما تشرح ذلك الرواية الدينية، فإن نهايته ليست مقضية بيوم الحساب الأكبر  الذي لم تتضح معالمه من قريب أو بعيد.. أما الحوادث الوجودية وظواهر كونية من سيول وبراكين وزلازل وغيرها الكثير فتحكمها قوانين وسنن كونية لا إرادة فيها لكائن حي من كان خالقا أو مخلوقاً، وبهذه القوانين والسنن فقط يمكن تفسير كل مظاهر التغير في العالم، وسرعان ما تتعزز في وعي الإنسان الذي سيطرت عليه معالم التفكير العلمي القطيعة مع كل أشكال الفكر الديني، وبات لا يستطيع رؤية العالم إلا من زاويته الخاصة، في الوقت الذي يصبح فيه عاجزاً عن إدراك الرؤية الأخرى، كما هو حال سابقه تماماً، وفي مستوى العجز نفسه.
    والاستقطاب مشكلة إنسانية حقيقية، يمكن تلمس عناصرها مع كل أشكال الفكر الإنساني، فمن بات مستقطبا في مدارات الوعي القبلي مثلاً لا يستطيع رؤية الجماعات الإنسانية على اختلاف أنواعها إلا من خلال انتماءاتهم القبلية، فيجد في القبيلة الكمال والقوة والقدرة على تلبية حاجات الأبناء، وحاجات كل فرد من أفرادها، ويرى فيها عوامل النمو والرخاء والعدالة والمساواة، ولا يستطيع رؤية أي تنظيم اجتماعي آخر في العالم أفضل منها، لما يجده فيها من تكامل في الوظائف والأدوار، أما من وجد نفسه مستقطبا في مدارات الوعي الديني فسرعان ما يجد صورة العالم المحيط به مختلفة تماماً، فالكمال للشريعة الدينية بما فيها من أحكام ورؤى وتشريعات تصلح لكل زمان ومكان، مما يدفعه إلى أن يكيف رؤاه وأنماط تفكيره وفق معاييرها، حتى لو لم تكن على درجة الكمال التي يتصورها، ويصبح عاجزاً عن رؤية كل ما فيها من سلبيات ونواقص، لأنه بات جزءا منها، وباتت معاييرها هي المعايير التي يحتكم إليها للحكم عليه، فلا يرى فيها إلا مصدرا من مصادر الكمال والقوة والعدالة والرخاء.
    ويلاحظ أن مشكلة الاستقطاب لا ترتبط بحجم المعلومات التي يملكها الإنسان عن الأشياء، ولا بنوعية هذه المعلومات، إنما ترتبط بسعة مجاله الإدراكي من جهة، وبقدرته على الربط بين مكونات هذا المجال من جهة ثانية، فقد يكون الفرد قادراً على أن يستحضر في وعيه مجموعة كبيرة من المعلومات والأفكار والقضايا التي سبق له أن عرفها إذا ما طلب منه ذلك، ولكنه غير قادر على أن يربط بين مكوناتها إلا إذا صار تنبيهه إليها، وعلى ما يأتي المجال الإدراكي واسعاً، وعلى قدر ما يكون الفرد قادر على أن يربط بين مكونات مجاله الإدراكي تأتي قدرته على فهم المواقف المختلفة، ومن زوايا متعددة، وبالتالي يستطيع أن يتمثل في وعيه تجارب الآخرين وتصوراتهم للقضايا التي يتناولها معهم، بينما يؤدي ضيق المجال الإدراكي، وضعفه من حيث السعة، ومن حيث التكوين إلى فشل الفرد في فهم تجربة الآخر وعدم القدرة على تمثلها في الوعي، مما يجعله أكثر تشددا وتعصبا للفكرة التي استقرت في وعيه، وسيطرت على تفكيره، وأصبحت بمثابة المعيار الذي يستخدمه للحكم على الأشياء المحيطة به، والواقعة في مجال إدراكه.
     ويتساوى في حجم المشكلة عالم الفيزياء وعالم الفلك، والفقيه الديني، والرجل العادي الذي لا يتقن حتى القراءة والكتابة، ذلك أن المشكلة ليست في حجم المعلومات، ولا في نوعيتها، إنما في آلية التفكير الذي يحتضنها، فعالم الفيزياء أو الطبيب الذي أكسبته تجربته قدرا كبيرا من المعارف والعلوم وبات مرجعا علميا في مجال اختصاصه، قد يأتي مجال إدراكه محدوداً، فيبدو شديد التعصب لأفكاره وآرائه ومواقفه، فكم من طبيب شهد له أقرانه بتفوقه في مجال اختصاصه، ولكنه لم يكن قادرا على أن يوظف معارفه العلمية لفهم صورة الوجود، ومكونات العالم، فتبدو عليه معالم التعصب الديني بدرجة تفوق تعصب رجال الدين أنفسهم، وكم من عالم دين اتسع مجاله الإدراكي حتى بات ينظر إلى العالم برؤية علمية تزيد عما هي عليه لدى الطبيب أو عالم الفيزياء. إن اتساع المجال الإدراكي للفرد، وفق هذا التصور، يمنحه قدرة كبيرة لما يسمى في علم النفس بالمرونة التي تعني إمكانية أن يرى الإنسان الأشياء من زوايا متعددة في وقت واحد، وقادر على تمثل رؤية الآخر.
      وفي ضوء هذا التصور تكمن أهمية أن يتفهم علماء الدين لمشكلات الشباب في المجتمع العربي المعاصر، الشباب الذي يتفاعل مع معطيات المعرفة العلمية التي باتت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، ولم يعد قادرا على فهم العالم، أو الوجود بمعزل عنها، بل أصبحت أداته الرئيسية في هذه المعرفة، فإذا لم يقدم علماء الدين الإجابات الكافية للتساؤلات المعرفية التي يقدمها التطور المعرفي للإنسان، فإن الفجوة بين نمطي التفكير محكوم عليها بالنمو خلال الفترات القادمة، مع تقدم واضح في آليات التفكير العلمي، وتراجع في آليات التفكير الديني، وإذا كانت البشرية عامة قد شهدت تراجعاً في آليات التفكير الديني خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فمن المتوقع أن يزداد هذا التراجع بقوة أكبر في العقود القليلة القادمة.
     ويوجب ذلك بالضرورة التحرر من التصورات والمفاهيم التي ما زالت تشكل عقبة أمام فهم العالم، وطبيعة الوجود، فلا يمكن المحافظة على الوعي الديني، والفكر الديني في ظل مظاهر القطيعة المعرفية بين ما يقدمه التطور المعرفي من إجابات تتعلق بطبيعة العالم الذي يعيش فيه الإنسان، وبين تفسيرات للظواهر الكونية منفصلة تماما عن تلك التطورات، كالقول مثلاً بحداثة الوجود البشري منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، كما هو في الوعي الديني، والقول بأن عمر الإنسان يجاوز في بعض التقديرات الخمسين مليون عام، كما تقدم ذلك معطيات المعرفة العلمية.
     وإذا كان آدم عليه السلام حقيقة كونية لا يمكن تجاوزها في الفكر الديني، فالمشكلة ليست في وجوده أو نفيه، إنما هي في التصورات المستقرة في الوعي الديني حوله، وفي المعاني والدلالات التي ينطوي عليها تعبير "آدم"، فالتصورات التي يولدها الذهن عند ذكر اسم "آدم" عليه السلام لا تطابق حقيقته بالضرورة، لأنها منتج إنساني، ويختلف الأمر بين باحث وباحث، وحتى بين عالم دين وغيره، فإذا شاءت الأقدار وثبت أن تصورات الوعي الديني لقضية كونية لا تتوافق مع تطورات المعرفة العلمية على نحو يقيني، فذاك يقضي بالضرورة إلى تغيير تلك التصورات والبحث عن تصورات أكثر كمالاً وتوافقاً مع ما استقر عليه العلم من يقينيات، في حين يؤدي التأكيد على الربط بين التصورات التقليدية للمفهوم وحقيقته في الواقع إلى تحكم المعرفة الدينية شيئاً فشيئاً، إلى أن تتلاشى كلياً، ولا يعود ذلك إلى ضعفها، وعدم تطابقها مع الواقع الكوني للعالم والوجود، إنما بسبب أن التصورات التي يقدمها الفكر الديني، والوعي الديني هي التي يشوبها الشك والريبة، وهي التي لا تتوافق والحقيقة الكونية.
    والأمثلة على ذلك كثيرة جداً وأكثر من أن تحصى، وتكفي الإشارة إلى نمطين من أنماط المعرفة الدينية التي كان لها شأن كبير في حينها، الأولى كروية الأرض، والثانية وصول الإنسان إلى القمر، أما كروية الأرض فلم يعد أحد في العالم يجرؤ على القول بنفيها، بعد أن بقي الكثير من علماء الدين يجعلون من يقول بها كافراً، لكن الأمر اختلف فيما بعد، وراح علماء الدين يكيفون أنفسهم مع هذه الحقيقة، ولم يكن ذلك بسبب أن الأرض كانت مسطحة وأصبحت كروية، بل لأن تصورات الإنسان، بما في ذلك تصوراته الدينية عن الأرض كانت خاطئة، ولم يعد في مقدور أحد من علماء الدين العودة للقول بنفي هذه الكروية، أما وصول الإنسان للقمر فكان له شأن في حينه، إذ اندفع عدد كبير من علماء الدين لنفي الخبر لما كان سائدا آنذاك من اعتقاد راسخ بقدسية القمر،  ولكن الأمر سرعان ما اختلف بعد سنوات، فكان على علماء الدين التراجع عن مفهوم القدسية حفاظاً على مضمون العقيدة.

     إن الفكر الديني بأطيافه المختلفة مازال يحمل في ثناياه مجموعة كبيرة من التصورات والمفاهيم التي لا تتوافق مع تطورات المعرفة العلمية التي يكتشفها الإنسان يوما بعد آخر، غير أن ذلك لا يعود إلى بطلان المعرفة بحد ذاتها، إنما هو في بطلان التصورات والمعاني التي تحملها تلك المعرفة، مما يوجب التفاعل مع مستجدات المعرفة العلمية في ضوء تصورات مختلفة تماماً عن التصورات التقليدية التي أنتجتها مراحل تاريخية كانت لها شروطها المعرفية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي توافق مراحل تكونها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق