تصور المكان في العقيدة الحموية لدى ابن تيمية بين مطلق النص ونسبية الفهم


     تشكل القطيعة بين العقيدة الدينية والفكر العلمي واحدة من أكثر التحديات الثقافية والفكرية التي تجابه الفكر الديني عامة، والعقيدة الإسلامية بشكل خاص، وتسهم في دفع العدد الكبير من الشباب المسلم إلى جعل الفكر العلمي معيارا للحكم على القضايا الدينية بصورة عامة، بصرف النظر عن الأبعاد الشرعية والفقهية لهذه الأحكام، وقد يتخذ الكثيرون منهم مواقف سلبية من الاعتقادات الدينية، وفق التصورات المطروحة للدين، لعدم توافقها مع مكتشفات العلم الحديث وتطوراته.
    ويراد بمفهوم القطيعة أن يأخذ الفرد بالتفاعل مع معطيات إيمانية بطريقة تختلف عن تفاعله مع ذات المعطيات بطريقة علمية، كما حدث في أوربا مع ظهور بدايات التطور العلمي، حيث اكتشف العلماء الطابع الكروي للأرض، في الوقت الذي كانت فيه هذه المعلومة تناقض ما هو سائد من معارف دينية وما أن استقرت هذه المعرفة على مستوى العلم، حتى صار الكثيرون يؤمنون بها عقلياً، تبعاً لما هو معطى من معارف وعلوم، ولكنهم يستسلمون لرفضها وجدانيا وعقائديا لما تحمله من تناقض مع ما كان مستقرا في وجدانهم عنها من قبل، ولهذا كان الفرد الواحد يتفاعل مع مفهوم الأرض بوصفها كروية الطابع عندما يكون في مدرسته أو جامعته، أو في المؤسسات العلمية، ولكنه يعود للتفاعل معها بوصفها مسطحة عندما يكون في الكنسية أو دور العبادة، فهو يتفاعل مع المفهوم تبعاً للبيئة الحاضنة له، فالبيئة العلمية تدفعه إلى تمثل المفهوم كما كما هو في هذه البيئة، والبيئة الوجدانية تدفعه إلى تمثل المفهوم كما هو فيها أيضاً.
     ومع تطور العلوم، ومزيد من الاكتشافات التي تناقض ما هو سائد من تصورات ومعارف بدأت القطيعة تنحل لصالح التطور العلمي، ذلك أن المعنيين بالشأن الوجداني والإيماني لم يكونوا قادرين على تطوير تصوراتهم المستقرة في وجدانهم، مما جعل الفجوة تزداد بين الدين والعلم، ودفع بالمتعلمين الجدد إلى تمثل التصورات الجديدة للمعرفة  ورفض التصورات التقليدية التي لم تستقر في وجدانهم أصلاً، وبهذه الطريقة أخذ تاثير المعارف الدينية يتراجع في وعي الناس لاتساع الفجوة التي تفصله عن تطور العلم.
     غير أن الأمر يختلف في العقيدة الإسلامية، ذلك أن التصور قابل للتطور بمقدار تطور العلم نفسه، فالنص القرآني الذي يشكل أساس المعرفة يختلف عن الفهم المعطى له، وإذا كان النص القرآني مقدساً، "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)" (سورة فصلت)، فإن فهمه هو إنساني يختلف من عالم إلى آخر، ومن زمان إلى غيره، وقد يناقض العلم وقد يوافقه، بدلالة التنوع الكبير في التفسيرات التي قدمها علماء التفسير للقرآن الكريم، أما النص بذاته فهو العلم المطلق، وهو أكبر من أن يوافق تطور العلم أو يناقضه، مما يجعل الشبهة في الفهم لا في النص، لأن الفهم عملية إنسانية، بينما النص رسالة إلهية، وبهدف عدم تقييد النص المطلق في معانيه ودلالاته، بفهم دون آخر، لا بد أن يكون الفهم مرنا وقابلا للغير بحسب تطورات المعرفة اليقينية نفسها.
    ومن الملاحظ أن قضايا علمية وفكرية عديدة تفرض نفسها في الوقت الراهن، وتشكل واحدة من التحديات الكبيرة التي تجابه الفكر الإسلامي، فتظهر من جديد مشكلة القطيعة بين الدين والعلم، ولكنها في حقيقة الأمر قطيعة بين فهم الدين والعلم، وليست بين الدين والعلم، فالمجتمع الإسلامي شأنه شأن كل المجتمعات فيه العدد الكبير من المفكرين والأدباء والشعراء، وعلماء الفقه الإسلامي، وعلماء الفيزياء والكيمياء والطبيعيات وغيرهم، وتنتشر مجموعة كبيرة من التصورات والأفكار التي تتوافق مع المعرفة العلمية تارة، وتناقضها تارة أخرى، وإذا كانت أوجه التوافق عاملاً مشجعا على التدين في كثير من الأحيان، فإن مظاهر التناقض تشكل بحد ذاته تحديا جديدا في أحيان أخرى، أما الفكر الديني، وحتى لا يكون ذلك على حساب الدين مباشرة لا بد من الإشارة إلى أن      أوجه التناقض مع العلم، وأوجه التوافق معه إنما هي مع الفهم السائد للدين وليست مع الدين في ذاته.
وفي هذا السياق تعد تصورات المكان واحدة من أكثر المشكلات الفكرية التي تحول دون عملية التوفيق بين الدين والعلم، وعلى الرغم من أن التناقض الذي يبدو ظاهرا في كثير من الأحيان بين تصورات الدين للمكان وتصورات العلم له إنما مرده إلى التناقض بين الفهم الإنساني للدين وبين تطورات المعرفة العلمية، فإن العقيدة الدينية مازالت تحمل أعباء الفهم الإنساني لها، فإذا ما جاء هذا الفهم قاصرا، جعل الناس الدين قاصرا، وإذا ما جاء هذا الفهم متوافقاً قال الناس بأن الدين يوافق، وفي الحالتين معاً خطأ لا بد من الإشارة إليه.
      إن التصورات الإسلامية لمفهوم المكان باتت تناقض الكثير من المعطيات العلمية التي يقدمها تطور العلم يوما بعد آخر، ولما كان الفهم السائد للكثيرين من الناس لا يميز بين الدين في مضامينه المطلقة، وبين الفهم الإنساني له، فإن التناقض يؤدي إلى رفض الدين بكليته في كثير من الأحيان، لأنه علم نقلي، بينما تأخذ المعارف العلمية طابعا تجريبيا حسيا، مما يجعلها أكثر يقينية بالنسبة إلى الكثيرين، وفي الحقيقة كان من الأولى رفض التصورات السائدة عن الدين، وليس رفض الدين نفسه، لأن ثمة فارق كبير بين المفهومين كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أما التأكيد على ربط مطلق النص بفهم دون غيره ففي ذلك ما يشكل خطرا على النص ذاته، ويسهم في تحريفه عن مضامينه.
     وتشكل رسالة ابن تيمية حول العقيدة الحموية واحدة من المبادئ الأساسية التي تبنى عليها تصورات أعداد كبيرة من المسلمين في الوقت الراهن لمفهوم المكان، ويعد مؤسساً لمدرسة فكرية قائمة بحد ذاتها، انتشرت بقوة فيما بعد، واستقطبت أعداداً كبيرة من المفكرين الإسلاميين الذين وجدوا أنفسهم قد وضعوا حدا لشطط الفلاسفة وعلماء الكلام، وأخذوا يؤولون صفات الخالق عز وجل بحسب خصوصيات تجاربهم الفكرية والعقلية التي امتزجت فيها عقائد دينية لم يكن المسلمون الأوائل على معرفة بها، ولم يكونوا على اطلاع بمضامينها.
    ولا يأتي الحديث عن رسالة الشيخ في الوقت الراهن اعتباطيا، إنما لصلته الوثيقة بقضايا معرفية يفرضها تطور العلم المعاصر، ويدفع العدد الكبير من الأبناء الذين يكتسبون معارفهم العلمية إلى الاستفسار عن الصلة بين الحقائق الكونية الكبرى التي أتت بها العقيدة الإسلامية والمعارف العلمية التي لم يعد بالإمكان تجاهلها، أو تجاوزها، وبرغم الاعتقاد السائد أن ما أتى به الإسلام من حقائق كونية لا يناقض العلم في تطوراته اللاحقة، غير أن الفهم الإنساني للنصوص العقائدية، والفهم الإنساني لتقدم العلم يأتي متباينا بين المفكرين والعلماء إلى الدرجة التي تبدو فيها مظاهر عديدة للتناقض بين مجموعتي المعارف التي يقدمها كل من النص الديني والتجربة العلمية.
ويلاحظ أن عددا كبيرا من علماء الدين والمفكرين الإسلاميين في الوقت الراهن يعيشون حالة أشبه ما تكون بالقطيعة بين ما يؤمنون به من أفكار مستمدة من تصوراتهم للحقائق الكونية التي أتى بها الإسلام، وبين ما يقدمه تطور العلم من معارف حول هذه الحقائق، ففي الوقت الذي ينفي فيه عدد من المفكرين الإسلاميين دوران الأرض حول الشمس مثلاً، لقناعة مستمدة من تصوراتهم للحقائق الكونية التي أتى بها الإسلام، لا يجدون في ذلك ما يناقض العلم، على اعتبار أن العلم تحصلي ويمكن أن تكون فيه الزيادة والنقصان، الأمر الذي لا يوجب بالضرورة التصديق به، طالما أنه خاضع للتطور والتغير مع تطور المعرفة الإنسانية، ويختلف الأمر بالنسبة إلى المعارف الكونية التي أتى بها الإسلام التي تعد يقينية وغير خاضعة للتطور أو التغير، أما عدم التوافق، ومظاهر التناقض فمردها القصور في المعارف العلمية التي لن تصل مرحلة اليقين، ويستبعد هؤلاء أي احتمال لسوء الفهم، أو ضعف الإدراك البشري عن معرفة الحقائق الكونية كما يشرحها الإسلام، فهي من الله عز وجل، وأتى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعمل بها الصحابة والتابعين من السلف الصالح، مما ينفي أن تكون هذه الحقائق على معاني مبهمة أو بدلالات غير واضحة تحمل معنى التأويل والخروج عم مضامينها الحقيقية.
    ويشكل مفهوم المكان واحدا من أعقد المفاهيم المرتبطة بالعقيدة الإسلامية، وبتطورات العلم فيوقت واحد. فالمكان كما هو في متن العقيدة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية يأخذ طابعا رأسيا وهرمياً، حيث يستوي الخالق عز وجل على العرش، مع وجوده في كل مكان، ويأتي الإيمان بوجود السموات السبع والأرضين السبع في هذا السياق، بينما تنتفي صفة الرأسية أو الهرمية للوجود والطبيعة في الدراسات العلمية عامة، وفي الدراسات ذات الصلة بالعلوم الطبيعية خاصة، فالكون وفق التصور العلمي لا بداية له ولا نهاية، وآفاقه غير محدودة، و لا يمكن توصيف مكان بالارتفاع أو الانخفاض إلا على نحو نسبي يختلف باختلاف أية نقطة ارتكاز  يتم الاعتماد عليها، فعندما انطلق الإنسان من الأرض إلى القمر انطلق من الأدنى إلى الأعلى، وعندما استقر هناك لحين من الزمن وقرر العودة، وجد الأرض في علو، وانطلق إليها أيضاً من الأدنى إلى الأعلى. وفي ذلك تكمن مشكلة التوفيق بين التصورات الإسلامية للمكان كما يقدمها بعض علماء المسلمين، وفي مقدمتهم ما ورد في رسالة العقيدة الحموية، وبين ما يقدمه التطور العلمي للمفهوم نفسه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق