الاعتدال في التدين فكرا وسلوكا ومنهجا


      يعاني المجتمع العربي والإسلامي بصورة عامة من ظاهرة غياب الاعتدال في التدين، فنلحظ في كثير من الأحيان اندفاعاً قويا نحو ممارسة الشعائر الدينية وإقامة الحواجز الاجتماعية مع غير المتدينين والنظر إليهم وكأنهم أعداء لا يجوز التعامل معهم إلا في حالات الضرورة التي تستدعيها ظروف الحياة. وإلى جانب ذلك نلحظ أيضا كثير من الشباب الذين أهملوا ممارسة  العبادات حتى أصبح التعبد بالنسبة إليهم وكأنه مظهر من مظاهر التخلف والانتماء إلى العصور سالفة في الدهر لا نقع من أحيائها اليوم، ولا في أي مستوى من المستويات. وفي الفارق الشاسع الذي يقوم بين هذا الفريق وبين ذاك تكمن أهمية الموضوع الذي يقدمه لنا الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي بعنوان ( الاعتدال في التدين فكرا وسلوكا ومنهجا).
     وتعود أهمية الكتاب إلى اعتبارين أولهم طبيعة الموضوع المطروح وثانيهم طريقة عرضه، وخاصة أن المؤلف أستاذ معروف في دراسته الإسلامية والفقهية بين المثقفين وغير المثقفين. وله في نفوس الكثير منهم مكانة لا بأس بها. وليس على أدل من ذلك أن الكتاب قد أعيدت طباعته ثلاث مرات خلال أعوام ( 90/ 91 / 1992).
إن مسألة غياب الاعتدال في التدين تعد ظاهرة واسعة الانتشار وتنطوي على أبعاد اجتماعية خط يسه تتعدى في مظاهرها حدود المسلمين لتشمل كل المواطنين المقيمين في البلاد الإسلامية، وأن كانوا من غير المسلمين. وإذا كانت المشكلة في المجتمعات السكانية قليلة التنوع قائمة بوضوح، فأنها تزداد حدة في المجتمعات السكانية قليلة التنوع قائمة بوضوح، فأنها تزداد حدة في المجتمعات السكانية كثيرة التنوع حيث يصبح المسلمون جزءا من المجتمع الواسع دون أن يشكوا كليته، وإن كانوا في كثير من الأحيان يشكلوا القسم الأكبر فيه. لذلك نلحظ أن مشكلة البحث تبرز على مستويات عديدة، ولعل من أبرز مظاهر الخطر فيما يتعلق بتعزي الحواجز الاجتماعية بين السكان وتأكيد الفوارق على مستوى المجمعات الدينية ضمن المذهب الواحد وعلى مستوى لمذاهب الدينية ضمن الدين الواحد، وعلة مستوى الديانات في إطار المجتمع الواحد. ويزداد الأمر خطورة إذا ما أدركنا مقدار التدخل بين هذه الانتماءات، وتباين المقاييس المعتمدة في كل منها مع تباين الزمان والمكان. فإذا كان الواقع الإسلامي عامة، الواقع العربي بشكل خاص يقوم على تنوعات واسعة، فإن الأمر الطبيعي التي تؤدي ظاهرة غياب الاعتدال إلى تعميق الفوارق بين هذه التنوعات ولتصبح مظاهر للاختلاف بدلاً من كونها مظاهر للتنوع، ومن تعدد الاختلافات لا غرابة من أن تزداد مظاهر التفرقة والانقسام، وتزداد أيضاً مظاهر الضعف والتخاذل.. لذلك يعد موضوع البحث على غاية من الأهمية.
      يحاول الباحث أن يبين بوضوح أن الإسلام في جوهره دين يدعو إلى الاعتدال في جميع جوانب الحياة فتدل النصوص التشريعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على ضرورة طلب الاعتدال في التدين، وهو ما يرادف مفهوم التوسط في الأمور. وستشهد الباحث سورة البقرة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء وعلى الناس ويكون الرسول عليكم رسولاً عليكم شهيدا) (البقرة/143). زمنه ما جاء أيضاً في سورة الفرقان (.. وإذا أنفقوا لم يسرفوا ويقتروا وكان بين ذلك أقواماً) ( الفرقان/ 67).
     لقد جاء الكتاب في ستة مباحث أساسية تناولت جوانب الموضوع المختلفة، ففي البحث الأول يقدم الباحث شرحا لمفهوم المغالاة في التدين وبواعثه الحقيقة والعوامل التي تؤدي إليه، ويجد هذه البواعث في الطمع وكثرة الذنوب والأثام وما يبثه أعد الإسلام من أباطيل وأكاذيب،بما يوسوس الشيطان في نفوس الضعفاء في الدين. ويلحظ الباحث أن الرهبنة في الإسلام هي من أشد صور المغالاة والغلو في والتدين، وقد حذر منها الشرع  الحنيف، وبين أخطارها. وقد دعا الإسلام إلى تحقيق التوازن بين الدين والدنيا. زفي ذلك يقول الله عز وجل "(وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغي الفساد في الأرض أن الله لا يحب المفسدين)" ( القصص/ 77).
    وفي المبحث الثاني يتناول الدكتور( الزحيلي) جملة من النتائج المرتبطة بالغلو. ويصنف ذلك في ثلاث مستويات هي: على مستوى العقيدة، وعلى مستوى الأحكام، وعلى مستوى السلوك. أما على مستوى العقيدة فيؤدي الغلو بصاحبه إلى الخروج عن دين الله ويتبعهم في حظيرة الكفار من حيث لا يدرون. وهذا ما حصل في كثير من الأمم السابقة الذين غالوا في صفات الله عز وجل، وفي أسمائه، وغالوا في صفات الأنبياء أو جعلوا منهم آلهة أو أبناء آلهة. وقد نهى القرآن عن ذلك، ووصف في فعله بالكفر. وتظهر نتائج الغلو على مستوى الأحكام في المبالغة بالعبادات ومجاوزة الحد المقدر لها شرعاً. وعلى مستوى السلوك تبدو النتائج كمحصلة حتمية للغو في العقيدة والأحكام. إذ تدل الوقائع إلى أن المغالي لا يصبر على الغلو في ممارساته، لأن جسمه عقله وروحه وفكره سيضيقوا به ذرعا، الأمر الذي يؤدي به إلى الانتظار  الوقت المناسب ليكبو به الغلو، ثم يطيح به في منتصف الطريق.
    وفي البحث الثالث يتناول الباحث مطهراً آخر من مظاهر عدم الاعتدال التدين، وهو المظهر الخاص من تفريط لأحكام الدين والمقصود بذلك التقصيد في ممارسة المفترضات والتقصير في أحكام الدين وتضييع حقوقه، وأظهر العجز عن القيام بواجباته. ويجدد الدكتور (الزحيلي) أن عوامل التفريط تكمن في ستة عوامل أساسية هي الكسل، واتباع الشهوات وضعف الأيمان، ووساوس الشيطان، وما يمارسه أعداء الإسلام من تحريض وبث الأكاذيب والتضليل، وأخيراً الجهل يدين وبأحكامه. ويصنف الباحث صور التفريط بالدين ويجددها في ست أيضاً هي: التقصير بالسنن والنوافل، والتقصير بالواجبات والفرائض، وخلط الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة، وتمزيق الدين كالإيمان ببعض الكتاب وإهمال بعضه الآخر، والإيمان بلا عمل، والتواكل. ويشرح المؤلف الفارق بين مفهومي التواكل، ويبين أن الإسلام يحارب التواكل ويدعوا إلى التوكل.
    ويشرح الباحث في المبحث الرابع نتائج التفريط في الدين وأخطاره، ويجد أن أبرز مظاهر هذا الخطر تكمن إحباط العمل، والكفر، وتشويه معالم الدين، ونقض الأحكام الإسلامية وهدمها، إضافة إلى التناقضات السلوكية والاجتماعية والافتنان بالدينة والتعلق بها، وغير ذلك...
    وفي البحث الخامس يتناول الكاتب موضوع الانتماء والالتزام، فكثيرا ما يؤدي الاختلاط بين المبادئ الدينية المفاهيم الإسلامية إلى الإفراط أو التفريط، فيلتبس الأمر على بعض الناس فيؤدي بهم إلى الغلو والمغالاة، أو التقصير في الأحكام. ويقوم هذا المبحث على أربعة محاور أساسية، في المحور الأول يتناول الدكتور ( الزحيلي) موضوع العصبية والتعصب وفيه يميز بين عصبية مزمومة، وعصبية ممدوحة، أما المزمومة فتنشأ من شعور الغريزة بالأنانية وقد رفض الإسلام مثل هذا النوع من العصبيات وخاصة ما تدعوا إليه الديانات القديمة، والتي تقررها دول الحديثة في الوقت الحاضر ، أما التعصب الممدوح فهوا المرتبط بإحقاق الحق وإقامة العدل، والثبات على المبدأ. وفي المحور الثاني يعالج الكاتب موضوع التضحية في سبيل الدعوة، فينظر إلى الدعوة إلى الإسلام بوصفها عبئ وتكليف، الأمر الذي يحتاج إلى جهد وعمل دؤوب. كما يعرض في المحور الثالث صوراً مشرقة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تبين ثباته على الحق. وفي المحور الرابع البطولية والشجاعة.
    أما المبحث السادس والأخير من الكتاب فيتناول الباحث موضوع الاقتصاد في التدين، إي التوسط والاعتدال والرشد والاستقامة، والأمة المعتدلة هي الأمة التي تلتزم الحد الوسط، والاقتصاد في التدين هو الاعتدال ولاتزان والاستقامة والتوسط في جميع الأمور الدينية، بدون غلو ولا مغالاة، وبدون تقصير أو إهمال. ويتوافق ذلك مع ما جاء به الشرع الحنيف ويؤيده العقل، ويتفق نع الفطرة البشرية. ويبرز الاقتصاد في التدين بسبعة  مستويات تتعلق بالاعتقاد، والتيسير بالتكاليف، ورفع الحرج والمشقة في التكليف، وفتح الرخص، والمداومة علة العمل ولو كان قليلاً، والاقتصاد في السلوك والمعاملات.
    وفي نهاية الكتاب يقدم المؤلف جملة من النتائج المتعلقة ببحثه ومن ذلك تحريم المغالاة، ووجوب الالتزام بأحكام الشريعة وأن الشريعة من صدق وأمانة ووفاء والصرامة في الموقف.، وأن الدين الإسلامي يحقق التوازن بين روح الفرد وجسده وعقلة، وغير ذلك من الأمور.
   وينتهي الكتاب بعرض لأهم المراجع المعتمدة فيها ولبعض من آثار المؤلف من كتب ودارسات، وفهرسة لموضوعات الكتاب.
    إن الكتاب في حقيقته، مادة ثقافية تنطوي على قيم إسلامية أصيلة مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية. ولا شك في أن الباحث يمتلك ناصية الموضوع الذي يتناوله، ومع ذلك فالمشكلة المطروحة كما نراها، متعددة الجوانب، ولها أبعاد اجتماعية كثيرة، وهي تحتاج في معالجتها لتحليل اجتماعي أوسع يكشف عن عواملها والأسباب التي تكمن وراءها. وقد يساعد مثل هذا التحليل على التعميق في فهم الظاهرة وكيفية معالجتها بطرق مستمدة من أحكام الشريعة، ومتوافقة مع أحكام الواقع المجتمعي القائم.
     ويمكن إيجاز الملاحظات الأساسية حول مضمون الكتاب على الشكل التالي:
1.                   إن مشكلة البحث المطروحة ليست مجرد انحراف عن جادة الصواب، سببه وساوس الشيطان ورفاق السوء، إنما هي ظاهرة واسعة الانتشار، وإذا كان أساس اجتماعي يرتبط بمجموعة التحولات التي يعرفها المجتمع العربي الإسلامي منذ فترة ليست بقصيرة. فالبنى الاجتماعية والاقتصادية التي تنظم طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد في تحول مستمر، وتبدل واسع. ومع ذلك فالتغير نسبي، وقد لا نجد مؤشراته بين عشية وضحاها. فمن المعروف أن التدين بصورة عامة فهو في المجتمعات الحديثة أقل وضوحاً مما هو عليه في المجمعات التقليدية، خاصة بعد أخذت الدولة الحديثة بالتخلي عن الدين كمنظومة فكرية تحكم سير عملها، الأمر الذي جعل التدين مسألة شخصية في معظم دول العالم. ومع ذلك فإن أبرز الشخصيات السياسية التي لم تتخل عن الدين كخلفية تحدد أنماط سلوكها، ومستويات أخلاقها دون أن يكون للدين علاقة بواقع السلطة التي يشغلونها. والمهم في الأمر أنه مع التخلي الدولة الحديثة عن الدين كمنظومة فكرية مرجعية لها، وظهور المسألة الوطنية والقومية أخذت ظاهرة التدين بالتراجع على مستوى الأفراد، وهذه الظاهرة عامة ولا تخص مجتمعاً محددا من المجتمعات الحديثة عموما. وفي ضوء هذا الواقع يجب النظر إلى ظاهرة غياب الاعتدال في التدين.
2.                    تأخذ هذه المشكلة في مجتمعنا الراهن خصوصية مميزة، فالوطن العربي، شأنه شأن المجتمعات الأخرى، تأثر بتحولات العصر، وبمنظوماته الفكرية (بأيديولوجيا) المتعددة والمتناقصة في كثير من الأحيان، وتم التخلي عن الدين لمنظومة فكرية (ايدلوجية) للدولة في معظم البلدان العربية، مما ساعد على انتشار فكرة أن التدين هو مسألة شخصية بالدرجة الأولى، وقد لعب واقع النوع دورا كبيرا في تعزيز هذه الفكرة. فالمجتمع العربي واسع التنوع في فئاته ودياناته ومذاهبه، فإذا فضل الله عز وجل هذه المنطقة وجعلها منطلقاً للديانات السماوية الثلاث، فمن الطبيعي أن تنتشر فيها هذه الديانات منذ ظهورها حتى الآن. وفوق ذلك فإن التيارات المذهبية في لإطار الدين الموحد تجد في المنطقة أيضا ما ينميها ويعززها لاعتبارات مختلفة. وقد دعت هذه الظروف مجتمعة إلى تراجع أثر الدين في الحياة الشخصية للأفراد بالمقارنة مع الدور الذي كان الدين يلعبه في المراحل التقليدية السابقة. فبرزة ظاهرة ضعف الدين أو التفريط في أحكام الدين لكونها تحقق لشاب المسلم أكبر قدر من التكيف الاجتماعي مع الواقع القائم المتعدد أصلا والتنوع في مسارات الفكر، فالشباب يتعرضون كل يوم لتحديات صعبة تتصل بالبنى الاجتماعية القائمة, وبالظروف المحيطة بهم, الأمر الذي يجعل الظاهرة المدروسة ظاهرة ذات أساس اجتماعي ,وليست مجرد انحراف عن الصراط المستقيم.
3.                    أما ما يتعلق بظاهرة الغلو في الدين, أو التدين, فلها شأن آخر ,وان كانت لا تنفصل عن ظروف الواقع الراهن . فهي تقترن في أغلب الأحيان مع ضعف الثقافة العامة التي لابد من النظر إليها بوصفها جزءاً من الثقافة الدينية ,وليست مجرد معلومات يمكن للفرد المسلم الاستغناء عنها إذا ما أراد التقرب من الله عزوجل وخاصة في ظروف العصر الذي نعيشه, حيث يصبح الاقتصار على الثقافة الدينية (بمعناها التقليدي الشرعي) فيه عاملا" من عوامل عدم التكيف مع ثقافة العصر, فالمسلم مطالب بأن يكون على معرفة بالنظرية النسبية والنظريات المادية, والإلحادية, وأن يكون ملما" بظروف العصر, وبالتحديات التي تجابه بلاده, وديانته, وأمته ليكون على مستوى المسؤوليات التي  تفرضها تحديات العصر . وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الثقافة العامة في مختلف ميادين المعرفة لا بد و أن تكون جزءاً من الثقافة الدينية وجزءاً لا يتجزأ من مناهج التعليم الديني. ويعطي ذلك للشاب المسلم فهماً أوسع لدينه ومعتقده, ومستوى أفضل من التكيف مع المحيط الاجتماعي، ومع تحسن مستوى الثقافة العامة لا بد وأن تتحسن أيضا" الثقافة الدينية, وستنطوي أحكام الشريعة على معان مختلفة, وستكون أكثر وضوحا "مما لو كانت الثقافة العامة محدودة . كما أن التعرف على طبيعة التحديات التي تجابه المسلمين في كل أنحاء الأرض تجعل المسلم أقل تطرفا" في تدينه و أكثر تسامحاً مع أبناء بلده و إخوانه و مع وضوح التحديات الصعبة التي تجابه الأمة العربية بشكل خاص , و التحديات التي تجابه الأمة الإسلامية بشكل عام تصبح معايير الاختلاف و التباين مظاهر تنوع في إطار المجتمع الواحد، وليست مظاهر اختلاف وتناقض، وفي هذا  السياق ستبرز لمفاهيم الاعتدال , والجهاد , والدعوة إلى الإسلام , وغيرها دلالات مختلفة نسبيا" عن الدلالات التي توحي بها ذات المفاهيم في إطار غياب الثقافة العامة ,وفي إطار غياب الوعي بمشكلات العصر و تحدياته .
4.                    إن ظاهرة غياب الاعتدال، وفق هذا التصور، وليست مجرد انحراف عن جادة الصواب، وتنجم عن عوامل نفسية بحتة أو عن غلبة وساوس الشيطان كما يراها المؤلف...، إنما هي ظاهرة تقوم على أساس اجتماعي، وتستمد مقوماتها من خصائص منظومة المجتمعية التي ينتمي إليها الواقع الراهن. ولك معالجة لهذه الظاهرة لا تأخذ هذا الارتباط بعين الاعتبار، وهي معالجة سطحية وستؤدي بالتأكيد إلى عكس ما هو مطلوب، وقد تساعد بشكل غير مباشر إلى تعزيز هذه الظاهرة بدلاً من القضاء عليها، وفي هذا الحالة قد تتحول أدوات البناء نفسها إلى أدوات تهديم بإدراك الفاعل أو بدون إدراكه.
5.                    كما أن مفهوم الاعتدال الذي يقوم عليه الكتاب، وإن كان يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، إلا أنه قد يعد تطرفاً إذا ما قيس إلى منظومة العصر الراهن، وإذا ما تم النظر إليه في ضوء التحولات الكبيرة التي يعرفها العصر الحديث، فظاهرة التدين عموما أقل وأضعف مما كانت عليه في حقب تاريخية سابقة، لذلك يأتي مفهوم الاعتدال كما هو مطروح تطرفا في ثقافة العصر، وفي هذه الزاوية تكمن صعوبة تطبيق مفهوم الاعتدال بالمعنى المشار إليه.
6.                    وعلى الرغم ذلك ليس المطلوب التخلي عن المفهوم الإسلامي الصحيح للاعتدال، إن ضرورة التمييز بين نموذجين لهذا الاعتدال، المفهوم الأول بالمعنى الإسلامي الصحيح، والثاني بالمعنى الواقعي الممكن تطبيقه مع أكبر قدر ممكن من النجاح في نشر الدعوة الإسلامية، والذي يمكن المسلمين من التفاعل مع مستجدات العصر، فالشاب الذي يهمل القيام بالعبادات والواجبات الدينية بحكم عمليات التواصل الكبيرة مع الثقافات الحديثة، لا يجوز التعامل معه بوصفه خارجا عن الدين، فهو يستحق أن يأخذ رجال بالتفاعل معه وتبادل الرأي حول الكثير من القضايا، ولا بد من استيعابه والاستماع إليه وفتح الحوار معه بوصفه مسلما يحتاج إلى المساعدة، ومن شأن ذلك أن يساعده في تذليل الصعوبات التي تعترضه، بينما تؤدي النظرة المتطرفة إليه إلى تعميق الفجوة معه، فتصبح الدعوة إلى الاعتدال أداة لتعزيز التباين والاختلاف بدلاً من كونها أداة للإصلاح.
7.                   لقد عانى المجتمع العربي، وهو في أعلى مراحل قوته من ظاهرة توجيه الانتقادات بالتكفير والخروج عن الإسلام، إلى درجة أن مظاهر التنوع غدت مظاهر للاختلاف والتناقض، ولم يستطع عدد كبير من العلماء المسلمين استيعاب الفئات الأخر ى التي اختلفت معه بالرأي ، فكانت الاتهامات بالخروج عن أحكام الدين الحنيف عاملاً أساسيا في تعزيز الانقسامات وتعزيز مظاهر الفرقة، إن الحفاظ على الإسلام يقوم أساساً في توحيد المجموع وتقليل احتمالات الاختلاف من خلا الاعتراف بالآخر، بينما يؤدي فرض الرأي إلى تعميق التباين والفرقة، مما يجعل المسلمين بكليتهم أكثر ضعفا وتشتتا.
    ويبقى الكتاب مادة ثقافية لكل شاب ويستحق الاطلاع عليه والاهتمام به، مع ضرورة أن ينظر إلى مفهوم الاعتدال بطريقة تصبح قادرة على  استيعاب الآخرين بما يتوافق مع خصائص المجتمع العربي الراهن، ويضمن مصلحته وحمايته بصورة عامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق