الأبعاد السياسية للفتوى الدينية في التاريخ الإسلامي



تشكل الفتوى الدينية الركن  الأساسي في عملية الاجتهاد، وإصدار الأحكام في الشريعة الإسلامية، وعلى الرغم من كونها عملا إنسانيا يرتبط  بخصائص رجال الدين أنفسهم من حيث مستويات قدرتهم على الفهم والاستيعاب واستخلاص الأحكام، وبمستويات معرفتهم بقضايا الناس ومشكلاتهم، وعلى الرغم من كونها تحمل في مضامينها احتمالات الخطأ والصواب، واحتمالات توافقها مع أحكام الشريعة الإسلامية، واحتمالات مخالفتها لها في مضمونها ومقاصدها في كثير من الأحيان، فإن رجال الدين يؤكدون، على اختزال  إرادة لله جل وعلا  في اجتهاداتهم وفتاويهم ومستويات فهمهم، ويعتقدون أن هذه الاجتهادات والفتاوي التي تنتجها تجاربهم الشخصية إن هي إلا تعبير عن إرادة الله جل وعلا، ويسقطون أحكامهم على من يخالفها بالكفر والعصيان، جاعلين أنفسهم وكلاء لله تعالى في أرضة، وشركاء له في حكمه، في الوقت الذي يمكن أن تكون فتاويهم واجتهاداتهم الدينية منقوصة الشروط، ولا تستوفي أركان الاجتهاد المطلوبة من صاحب الفتوى، بل يمكن أن أيضا تكون تعبيرا عن رغبات القوى السياسية التي تحتضنهم وترعاهم وتشكل مصدر الإلهام والتفكير بالنسبة إليهم.
لقد شهد التاريخ الإسلامي مراحل متباينة من مظاهر القوة والضعف، فقد عرف خلال فترات طويلة مظاهر القوة والترابط والتعاضد بين مكوناته، فتمكن المسلمون حينها من إيصال الدين والعقيدة الإسلامية إلى مساحات واسعة من العالم القديم، وانتج للبشرية كما هائلا من الفلسفات والمعارف والعلوم التي بقيت لأحقاب عديدة موضع درس وتحليل في أكبر الجامعات آنذاك، فكانت إسهامات الفلاسفة المسلمون أكبر من أن يضبطها إحصاء، وأوسع من أن يحدها مكان، وأصبحت الحضارة العربية الإسلامية موطن احترام وتقدير من قبل فلاسفة الغرب ومنوريه لفترات طويلة.
وإلى جانب ذلك شهد المجتمع الإسلامي أيضاً مظاهر ضعف واسعة، تجلت في الفتن والصراعات والحروب التي تتالت عليه منذ الفتنة الكبرى، وانقسام المجتمع بين مؤدين للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبين معارضيه، حتى انتهى الأمر إلى استشهاده رضي الله عنه، واستشهاد الإمام علي رضي الله عنه بعده بسنوات قليلة، واستمرت الفتن لفترات طويلة من الزمن، وأودت في مجملها بحياة الآلاف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آل بيته وتابعيه فيما بعد.
وكان الاجتهاد حاضرا في كل المراحل التاريخية المشار إليها، وكان رجال الدين مستعدين لما توجبه عليهم كل مرحلة بذاتها من فتاوي وأحكام، يستلهمون من طبيعة المرحلة التي يعيشونها ما يرونه مناسبا وفق تصوراتهم، ووفق قدراتهم الإدراكية والمعرفية، ووفق الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي كانوا يعيشونها، ووفق انتماءاتهم المضمرة في نفوسهم ووعيهم أيضاً، بالإضافة إلى ما كانت توحي به القوى السياسية وتمارسه من تدخلات وضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية على رجال الدين، حتى تأتي اجتهاداتهم وفق مصالح هذه القوى، فظهرت الفتوى الدينية التي تدعو إلى الوحدة والتضافر تارة وظهرت الفتوى إلى تدعو إلى الفرقة والانقسام تارة أخرى، وقد ترافق النمطان من الفتوى في كثير من الأحيان، وظهرت معالم الفوضى في الفتاوي التي تتناول قضية واحدة، فيجيزها بعض رجال الدين ويحرمها بعضهم الآخر، حتى أصبحت الفتوى الدينية في كثير من الأحيان أقرب إلى الذاتية منها إلى الموضوعية، وتختلف بين رجال الدين أنفسهم باختلافاتهم الشخصية والعائلية وحتى الاجتماعية والعشائرية بالإضافة إلى اختلافاتهم السياسية الأكثر عمقا في التأثير الاجتماعي.
وفي الوقت الراهن تعد المشكلة في أكثر مظاهرها خطورة، ذلك أن الاجتهادات الدينية والفتاوي الفقهية التي أنتجتها مراحل الصراع والفتن الداخلية في المجتمع الإسلامي تشكل اليوم المراجع الفقهية الأساسية لعدد كبير من رجال الدين من ذوي النفوس الضعيفة، والقدرات العقلية المحدودة، والأطر المعرفية الضيقة، من هواة تحصيل المنافع، والمتاجرة بالدين، فهم يهتدون بهديها، ويقتادون بأمرها، بما تنطوي عليه توجهاتها من تفتيت لبنية المجتمع الإسلامي، وبعثره لمصادر قوته، وتمكين لأعدائه، وبما تحمله في مضامينها من مخالفة صريحة وواضحة لأحكام القرآن الكريم، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا الأولوية والأصل لفتاوي الفتنة والشقاق وبعثرة الطاقات، وأصبحت فتاوي الوحدة والتضامن والقوة بالنسبة إليهم مظاهر شطط وانحراف شاذة في تاريخ الإسلام، وبدع لا يجوز اتباعها، وراحوا يعملون بجهد كبير لتفسير القرآن الكريم وتشويه معانيه وفق مقاصدهم السياسية، ويعتمدون على ما هو ضعيف  وأحادي ومنسوب بالظلم والبهتان للسنة النبوية الشريفة، ويجدون في تاريخ فتاوي الفتنة عبر التاريخ الإسلامي بديلا عن الحديث النبوي الشريف ويعطلون قول الله عز وجل وفق ما توجبه عليهم أحكام الفتنة وشروطها، ووفق ما تمليه عليهم ضرورات التوظيف السياسي للدين.
وسرعان ما وجد رجال السياسة من أعداء الإسلام في هذه المجموعات ضالتهم المنشودة التي يبحثون عنها، فتظاهر رجال السياسة بحبهم للإسلام وغيرتهم عليه ودفاعهم عنه، واستقطبوا ضعاف النفوس من رجال الدين في مداراتهم وتنظيماتهم السياسية، وأرخوا لهم العطايا والهبات والمنافع المادية، ووفروا لهم شروط تميزهم عن غيرهم من المسلمين، وجعلوا طاعتهم دليلاً على طاعة الرحمن، وتوجب مخالفتهم أحكام التمرد والعصيان، وهي قرينة بمخالفة السلطان، فانطلت اللعبة على ضعاف النفوس من رجال الدين فأعمت المنافع الدنيوية أبصارهم وبصيرتهم وضللت أفكارهم، حتى صاروا منغمسين في الحرب على الإسلام والمسلمين، من أعلى رؤوسهم حتى خمص أقدامهم، بوعي من يخفي في نفسه عداءه للإسلام، وبدون وعي العدد الكبير منهم، فدفعوا بأبناء بلدهم إلى الموت باسم الجهاد في بلاد الإسلام، والدفاع عن حرية المسلمين، في الوقت الذي رفعوا فرض الجهاد عن أنفسهم وعن خواصهم من الأقارب والأتباع، وراحوا يتنعمون بخيرات من عادى بلادهم ويتقاضون منه ثمن دماء أبناء وطنهم الذي استباحته القوى السياسية التي يدافعون عن مصالحها في بلادهم، بحكم محدودية المجال الإدراكي لوعيهم، وضعف مستويات التفكير لديهم، وبحكم ما لديهم من ميل لتحصيل المنافع على حساب المبادئ.
لقد جاءت فتاوي الفتنة سياسية في مضمونها وأبعادها، ولم يتمكن من إدراك الأخطار المترتبة عليها إلا من اتصف بمجال إدراكي واسع، ومجال معرفي كبير، وكان من هؤلاء رجال دين جعلوا حماية مصالح المسلمين في بلادهم أكبر همهم، وجاء التعريف بالمضمون الإنساني والأخلاقي للإسلام بالنسبة إليهم في مقدمة أولوياتهم، فتصدوا لمظاهر الفتنة، وكشفوا عن زيف من انجرفوا في مساراتها، وبطلان حجج  من عملوا على نشرها خدمة لأعداء الإسلام والمسلمين، فتكالبت عليهم  جحافل المرتزقة الذين وظفهم أعداء الإسلام في سياق حربهم عليه، حتى استشهد من استشهد منهم، وبقي من بقي في جهاده، مجسدين بذلك أفضلية لقاء ربهم أحرارا على أن يبيعوا  دينهم وأنفسهم مقابل شهوات زائلة، وملذات تشهد على ضلالتهم يوم الحساب.
ولا شك في أن لمواقف هذه الشريحة من رجال الدين أبعادا سياسية أيضا، استفاد منها من استفاد من القوى السياسية المشاركة في الحرب، وتضرر منها من تضرر من قوى سياسية أخرى، ولكن هذه المواقف جاءت منسجمة مع رؤيتهم للأحداث المحيطة بهم، ومنسجمة مع مستويات إدراكهم للأخطار المترتبة على الفتنة التي أتقنت حياكتها القوى السياسية التي تضمر عداءها للإسلام والمسلمين، وجاءت هذه المواقف منسجمة أيضاً مع مستويات معرفتهم الشمولية للواقع الذي يعيشونه، وللتحديات التي تهدد المجتمع الإسلامي، وتشاركهم في هذه التصورات شرائح واسعة من المثقفين في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الذين اتصفوا أيضا بسعة الإدراك، وشمولية التفكير.
وفي سياق هذا التصور لم تأت الفتوى الدينية منعزلة عن السياسة في هذا البلد أو ذاك، ولا في أي بلد من بلدان العالم، والفتوى الدينية التي لم تأت متوافقة مع سياسة الدولة لتي تحتضن رجال الدين، وتضمن مصالحها ومصالح أبنائها فهي تأتي بالضرورة متوافقة مع مصالح القوى السياسية المعادية لهذه الدولة، وهي جزء لا يتجزأ من سياسة الفتنة التي تهدف إلى توظيف الدين لخدمة السياسة.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التصور لا ينفي إمكانية أن يخرج رجل الدين بالحقيقة مطالبا بالإصلاح، وإحقاق الحق، وإعلاء كلمة الله في أرضه أمام زعيم جائر أو سلطان ظالم، فإن حدث هذا فالاختبار الحقيقي له يكمن في استمراريته دون الاستعانة بقوى سياسية تستغله، وتستغل الدين لصالحها، فيكون خطرها على الإسلام والمسلمين أكبر من خطر السلطان الجائر، وإذا وجد رجل الدين في استمراره بطلب رفع الظلم مصيره المحتوم، واستشهاده المؤكد، فإن ذلك أهون على نفسه، وأهون عند الله عز وجل من أن ينجو بنفسه فرارا بعد أن أجج الفتنة في بلده، وروج لها بمعونة أعدائه، وتركها تحصد دماء الآلاف من أبناء وطنه، ولو أنه كان مؤمنا بالفعل بربه وبمشروعية الفتنة التي شارك في إثارتها وتأجيجها لجعل من نفسه أول من يستشهد في سبيل الله، ولفرض احترامه على بعده من المسلمين كافة، ومثل هذا المؤمن لا يمكن أن يجد في الملذات والشهوات التي ينالها من أعداء بلاده طريقا بديلا للشهادة التي هي حلم كل مؤمن ومؤمنة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق