توريث المرأة بين الشريعة والقانون والأخلاق الاجتماعية


تأتي المشكلات الاجتماعية المتعلقة بقضايا توريث المرأة حقوقها المادية من والديها أو زوجها، أو ممن لها صلة اجتماعية معهم نتاجاً لمشكلات أكبر تتصل بصيغ التفاعل الاجتماعي، وبمنظومات القيم والمعايير الناظمة للسلوك الإنساني، ولم يأت تطور القوانين والنظم القضائية والدستورية المتعلقة بموضوع الإرث في البلدان المختلفة إلا نتيجة عدم القدرة على ضبط المشكلة، وغياب إمكانية التحكم بها، حتى بالنسبة إلى المعنيين بالسلطات التنفيذية على اختلاف مستويات سلطتهم الاجتماعية والسياسية.
وتعد القضايا المتعلقة بتوريث المرأة من القضايا التي أثارت الخلاف والجدل بين الناس منذ القديم، نظراً لارتباطها بمصالحهم، ومصادر نفعهم، لذلك وجدت هذه القضية نفسها في كل النظم والقوانين التي ظهرت في المجتمعات الإنسانية منذ أن وجد البشر أنفسهم يبحثون عن كيفية تقاسمهم لأملاك المتوفين منهم. وبحكم أن المرأة هي الطرف الضعيف في منظومة العلاقات الاجتماعية، وبحكم أن لها مشكلات خاصة تميزها عن مشكلات الذكور في بنية المجتمع، فمن الطبيعي أن تضاف قضية استحقاقاتها من الميراث  إلى مجموعة القضايا والمشكلات التي تعاني منها المرأة تبعاً لثقافة المجتمع وتاريخ حضارته.
ولهذا تأتي القضايا المتعلقة بتوريث المرأة لتجسد المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة نفسها، ففي المجتمعات التي تحترم المرأة وتعطيها حقوقها المكافئة لحقوق الرجل، تبدو مشكلة توريث المرأة أقل انتشاراً، بينما تزداد هذه المشكلة وضوحاً كلما ضاقت حقوق المرأة، وكلما ازدادت المشكلات المتعلقة بها، وباختصار تعد المشكلات المتعلقة بتوريث المرأة جزءاً أساسياً من المشكلات التي تجابه المرأة وتعاني منها تبعاً لأشكال المنظومة الثقافية والحضارية التي تميز مجتمعاً عن غيره من المجتمعات.
لذلك فإن المشكلة في جوهرها، ليست مشكلة متعلقة بالصيغ القانونية أو الدستورية التي تنظم عمل المؤسسات القضائية في بلد من بلدان العالم، إنما المشكلة في بنية الثقافة والوعي الاجتماعيين، وما المؤسسة القضائية بحد ذاتها إلا نتاج للثقافة، ونتاج حضاري للأمة، وهو نتاج إنساني في طبيعته، أي من صنع الإنسان، ومن الطبيعي أن تحمل الصيغ القانونية مشكلات المجتمع نفسه الذي تنتمي إليه هذه القوانين، أو المجتمع الذي أنتج هذه القوانين، فإذا بنية الثقافة ومستويات الوعي الاجتماعي لا تسوِّغ للمرأة الحصول على ذات الحقوق التي يحصل عليها الرجل، فليس من المتوقع أن تصبح المؤسسة القضائية قادرة على فعل ذلك لو اجتهد القضاة لذلك اجتهادات كبيرة، وكثيراً ما يؤدي عمل القضاة والمشرعين بمعزل عن الثقافة السائدة إلى فصل المؤسسة القضائية عن المجتمع، وجعلها تعمل بنظم ومعايير لا يعترف بها إلا أصحابها، في الذي يجد الأفراد الآخرون طرقاً عديدة للتحايل على المنظومة القضائية والخروج عن أحكامه.
ذلك أن المؤسسة القضائية معنية دائمة بالمواقع التي تظهر فيها المشكلات، ويغيب الاتفاق بين الناس، وهي لا تظهر في الحياة الاعتيادية ولا في العلاقات الاجتماعية الاعتيادية، لذلك يصبح في مقدور الناس الخروج عن أحكام القانون وعدم الانصياع لأحكامه طالما أنهم قادرون على ذلك. وقادرون على عدم الدخول إلى عالم القضاء، ولهذا نجد مئات القضايا، بل الآلاف من قضايا الإرث يتم الحسم فيها دون اللجوء إلى المؤسسات القضائية، وبرضى الأطراف المختلفة، بما في ذلك رضى المرأة التي قد يكون قد لحق بها ظلم وإجحاف كبيرين. ولهذه الأسباب فإن المؤسسة القضائية غير قادرة على إعطاء المرأة حقها من الميراث الذي تستحقه، وإن استطاعت المرأة الحصول على حقها بالقضاء فلا شك أنه تخسر جوانب اجتماعية كثيرة لا يمكن للقضاء أن يوفرها، الأمر الذي يدفع المرأة إلى الموازنة دائماً بين عدم حصولها على استحقاقاتها المادية مقابل المحافظة على مكانتها الاجتماعية بين أخوتها أو حصولها على استحقاقاتها المادية من الميراث وفقدانها الجوانب الاجتماعية التي تزيد أحيانا في أهميتها أهمية الميراث نفسه.
ولهذه الأسباب نجد أن المؤسسة القانونية والقضائية لا يمكن لها أن تضمن حق المرأة في الميراث على أي وجه من الوجوه إلا إذا كانت الثقافة العامة، والوعي الاجتماعي يضمن للمرأة هذه الحقوق، وإذا كانت البيئة الاجتماعية تجيز للمرأة هذه المطالبة، عندئذ تصبح حقوق المرأة مضمونة في بنية النظام الاجتماعي والثقافي للأمة، وليست مضمونة في النص القانوني وحسب.
والمسائل المتعلقة بالقانون هي نفسها مرتبطة بأحكام التشريع أيضاً، فالشريعة ما هي إلا شكل من أشكال القوانين الناظمة لحياة الناس ولعلاقاتهم الاجتماعية فيما بين بعضهم بعضاً، والفارق بينهما هو أن القانون الوضعي نتاج إنساني بالدرجة الأولى، يخضع للتطور والتطوير، أما التشريع فله شأن آخر، هو جزء من الرسالة الدينية التي أظهرها الله عز وجل لخلقه  بطريق أنبيائه، وجعل الالتزام بها معياراً للإيمان. وفيه (أي في التشريع) نجد النصوص القانونية التي توضح الحقوق المتبادلة بين الناس، وتوضح الواجبات المترتبة على كل منهم بحسب مواقعهم الاجتماعية في بنية التنظيم، وتأت حقوق المرأة في الميراث واحدة من القضايا الأساسية التي تنص عليها كل شريعة من الشرائع السماوية الثلاث، ومع ذلك فالمشكلة ليست في نصوص الشريعة نفسها، ولا في الفلسفة التي تقوم عليها هذه الشريعة، إنما هي في فهم الناس لهذه الشريعة وفي أشكال تطبيقهم لها.
إن التطبيق العملي لأحكام الشريعة غالباً ما يرتبط بمستوى الوعي الاجتماعي للناس، وبمستوى الوعي الثقافي والحضاري الذي أنجزته الأمة عبر تاريخا، فالشريعة فهم واستيعاب للقضايا وليست مجرد قراءة  لنصوصها، والمجتمع المتخلف ثقافياً وحضارياً كثيراً ما يأخذ في تطبيقه لأحكام الشريعة طرقاً وأساليب هي أبعد ما تكون عن مضمون الشريعة نفسها، فكم هي الممارسات التي تحرم المرأة من حقها في الإرث والشريعة واضحة في هذا المجال، والناس لا يأخذون بها، ليس لعلة في بنيتها، إنما انصياعاً لبنية اجتماعية متخلفة، يجيز الأفراد لأنفسهم فيها ما لا تجيزه لهم شريعة ولا قانون.
فالمشكلة في هذه الحالة ليست في الشريعة، ولا في القانون، إنما هي في الوعي الاجتماعي، وفي بنية الثقافة، والنظم الاجتماعية  حيث يسوِّغ المرء لنفسه امتلاك ما لا يستحقه، ويتجاوز  الأمر مشكلة توريث المرأة ليصبح سلوكاً يومياً نعاني منه، في المتجر، والمؤسسة، والشارع العام، وحتى وسائط النقل.. حيث يميل الفرد إلى إغفال حق الآخرين مهما كبر شأنه، وعدم الاكتراث به، بغض النظر عن الوجه القانوني أو الشرعي لهذا السلوك. لقد أصبحت المنفعة هي المعيار الرئيسي الذي نبني عليه أنماط سلوكنا وأشكال أفعالنا، أما مفهوم الاستحقاق، والواجب، والقانون،.. وغيرها فغالباً ما تكون غائبة عن وعينا وذاكرتنا في معظم أنماط السلوك اليومي التي نمارسها، وليس من المتوقع في إطار منظومة التفاعل هذه أن تصبح حقوق الآخرين، بما في ذلك حقوق المرأة، بمثابة المعيار الداخلي الذي نحكم من خلاله على هذا النمط من السلوك، أو هذا الشكل من أشكال الفعل طالما أن الميل نحو المنفعة أصبح هو المعيار الأول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق